يحلم العراقيون بالتغيير. كان ذلك حلمهم قبل الاحتلال وبعده. كان النظام السياسي السابق ثقيلا. أما اليوم فالفوضى لا تسمح باكتشاف أي صفة للنظام. لا أحد في إمكانه أن يضع النظام الحالي في مكان ما على الميزان السياسي. وبسبب بنيته الطائفية التي هي بنية هشة يمكن أن يؤدي استمرارها إلى تفكيك البلد أو قيام حرب أهلية بين أطياف الشعب الذي صار عبارة عن مكونات حسب الدستور الجديد الذي هو واحدة من أشد لمسات الاحتلال خطرا على مستقبل العراق. يحلم العراقيون بتغيير ذلك النظام، لكن بالطرق السلمية. لقد انتهى زمن الانقلابات بعد أن تم استضعاف الجيش ونزع هويته الوطنية وتحييده. يعتقد العراقيون، بعضهم على الأقل، أن الطريق إلى التغيير يمر بصناديق الاقتراع.

غادر الأميركان العراق عسكريا. أبقوا قواعد عسكرية لهم في الأجزاء التي يعتبرونها حساسة في إطار أمنهم القومي. ذلك ما تبقى من أرباحهم من الاحتلال غير أن خسائر العراقيين بسبب ذلك الاحتلال لا تُحصى ولا يمكن التنبؤ بمدياتها المستقبلية. فقد لا يكون هناك عراق بعد كل ما جرى. فالدولة جرى هدمها والجيش تم حذفه وحزب البعث تم اجتثاثه. أما المجتمع فقد جرى تمزيق نسيجه وتوزيعه بين الطوائف والقبائل والعوائل. لم يبق من الديمقراطية التي وعد بها الأميركان سوى الانتخابات ولكنها انتخابات تجري في ظل هيمنة الأحزاب التابعة لإيران. غير أن أمل العراقيين في الانتخابات صار يتضاءل شيئا فشيئا. فكلما حاول الشعب إلحاق الهزيمة بالأحزاب الكبرى التي استولت على السلطة بمعونة من الأميركان كانت الأمور تنقلب ضده. في كل انتخابات جديدة يتم إعادة إنتاج النظام الطائفي بإضافة وجوه جديدة هي عبارة عن مرايا للوجوه القديمة التي لا تزال تتصدر المشهد السياسي.

بعد أكثر من عشرين سنة من الانتخابات انتهى العراق تحت الهيمنة الإيرانية بشكل كامل بعد أن كانت تلك الهيمنة جزئية. كما أن الميليشيات بعد أن كانت عبارة عن عصابات مسلحة تتقاتل في ما بينها تم دمجها في تنظيم موحد هو الحشد الشعبي الذي لم يكتف باستيلائه على جزء من واردات النفط بطريقة رسمية، بل صار اليوم قوة فاعلة على المستوى السياسي حيث تسلل ممثلوه إلى مجلس النواب والحكومة وصولا إلى السلطة القضائية. وليس نوعا من المبالغة القول إن دولة الحشد الشعبي وهي دولة ميليشيات صارت واقعا من غير أن تضطر الميليشيات إلى رفع السلاح في وجه الحكومة كما حدث غير مرة وبالأخص في ظل حكومة مصطفى الكاظمي (2020 – 2022).

أما الفساد فبغض النظر عن بيانات هيئة النزاهة التي لا يمكن أن تكون مستقلة وقادرة على تنفيذ قراراتها في ظل هيمنة الأحزاب عليها فإنه واقعيا صار أقرب إلى الحقيقة التي ينتجها الزيف. فلا مكان في الدولة العراقية لم يضربه الفساد. هناك مَن يتحدث بألم عن فساد الأنفس والضمائر. لقد تغير العراق ومجتمعه فعلا ولكن في اتجاه سلبي. كان الرهان على الغزو الخارجي للتخلص من النظام الثقيل والقاسي هو القرار الذي تبنته أحزاب المعارضة العراقية السابقة وصار مثقفوها يبشرون بنتائجه الوردية خاسرا. ما حدث من فساد هو من صنع المحتل الذي بدأ عصره بمناقصات، كان يهدر من خلالها الأموال العراقية التي كانت محجوزة في المصارف الأميركية على مشاريع، كانت كلها وهمية. وهكذا بدأت حكاية الوهم الذي صار يلتهم الجزء الأكبر من واردات العراق المالية. مدارس وشوارع ومستشفيات وجسور وسواها من مرافق خدمية كلها كانت مشاريع وهمية، كانت شركات عالمية وعربية واجهتها. وهو ما ساعد على تهريب الأموال خارج العراق.

كل ذلك حدث في ظل الانتخابات. وهكذا كانت الانتخابات بمثابة دعوة للترحيب بتمدد إيراني أكثر وفساد أكثر. فهل زادت الانتخابات المشهد السياسي في العراق تعقيدا أم أنها عبرت عن رغبة العراقيين في أن تكون بلادهم عبارة عن إمارة فارسية ينخرها الفساد وتسودها الفوضى؟ ربما سيُقال إن النوايا الطيبة تقود أحيانا إلى التهلكة. ولكن الثقة بتغيير يتم عن طريق الاحتلال لا بد أن تنطوي على الخيانة وهو المعنى الذي سيواجهه في المستقبل عراقيون لم يكونوا صادقين مع أنفسهم وبالتالي مع شعبهم الذي تركوا مصيره في قبضة العصابات التي صارت مؤسسات في ظل دولة، حُكم عليها بالفشل لأنها ستظل محكومة بشرعية كاذبة كانت انتخابات مزورة مصدرها.