تحليلات متباينة حول الأوضاع المأسوية في غزة ما بين آلام إنسانية عميقة هزت ضمائر كثير من البشر، وردود فعل متفاوتة في الشرق والغرب. فمن جانب، هناك من يعتقد أن تحرك الفلسطينيين في هذا الوقت هو تهور عسكري، خاصة مع علمهم بعدم تكافؤ القوة، ما بين كتائب ومنظمات مقاومة شعبية لا تمتلك كثيرا من القوة والسلاح من جهة، ومن جهة أخرى قوة إسرائيلية ضاربة ومتفوقة عدة وعتادا، تمتلك أحدث الأسلحة التي تحصل عليها بأسعار شبه مجانية من الدول الغربية، إلى جانب تطور صناعاتها العسكرية بسبب شراكاتها القوية مع المؤسسات البحثية في أمريكا وبريطانيا وفرنسا.
من جانب آخر، يقول الرأي الآخر: إن استمرار الاحتلال عقودا طويلة وعدم تنفيذ إسرائيل تعهداتها في كامب ديفيد وكذلك في اتفاق أوسلو الذي ينص على تسليم الأراضي المحتلة المتفق عليها للفلسطينيين، مع عدم التوسع في بناء المستعمرات، علاوة على إصرار إسرائيل على حصار غزة وتحويلها إلى سجن كبير، وكذلك استمرارها في الإجراءات التعسفية، والإمعان في هدم المنازل دون رادع. في ظل كل هذه الظروف، فمن الطبيعي أن تؤدي هذه الأوضاع التعيسة التي يعيشها الفلسطينيون إلى زيادة مشاعر الإحباط واليأس، وتراكمها في النفوس لتصل إلى حد لا يطاق، وهنا تنطلق أعمال المقاومة والمناوشات.
ما يزيد الطين بلة، أن الحرب الحالية كشفت أن مخططا لتهجير سكان غزة ربما كان على طاولة صناع القرار في إسرائيل منذ فترة، بانتظار الوقت المناسب للتنفيذ، فظنت إسرائيل أن الهجوم في 7 أكتوبر هو الشرارة والوقت المناسب للانطلاق في تنفيذ مخططاتها لتهجير سكان غزة قسريا إلى الدول المجاورة كما فعلت أثناء حرب 1967. ومن المؤسف وغير المنطقي أن تلجأ إلى هذه الإجراءات غير الإنسانية قوى يهودية تدعي أنها واجهت التميز العنصر والتطهير العرقي والمحارق في ألمانيا قبل أقل من قرن من الزمان.
نعم، لقد اعتقد صناع القرار في إسرائيل أن الفرصة مواتية بعد الهجوم في 7 أكتوبر الماضي، فاستخدمت قوة مفرطة دون مراعاة لأرواح الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ أو البنية التحتية، وذلك من أجل تحويل غزة إلى أرض محروقة لإيجاد "واقع جديد على الأرض"، ضاربة عرض الحائط بالدعوات والمناشدات العربية والعالمية لوقف إطلاق النار وتسهيل دخول المساعدات الإنسانية، مستندة بثقة إلى الموقف الغربي المؤيد لما يسميه بـ"الدفاع عن النفس".
ولكن حدث ما لكم يكن في الأذهان، فلم يكن في حسابات إسرائيل والحكومات الغربية الداعمة إمكانية تنامي الرأي العالمي الشعبي المناصر لحقوق الشعب الفلسطيني، ووصول الرأي الآخر للمواطنين في الدول الغربية، خاصة في صفوف الشباب الذين يولدون ضغوطا إن عاجلا أو آجلا على الحكومات الغربية لتخفيف الدعم المطلق لإسرائيل، فعلى سبيل المثال، عدت مجلة "نيوزويك" أن دعم فلسطين بين الأمريكيين ارتفع إلى مستويات قياسية مع اعتبار كثيرين منهم أن الاحتلال الإسرائيلي هو "تطهير عرقي". في السياق نفسه، يشير أحد الأكاديميين في جامعة سان دييجو كاليفورنيا إلى أن هناك انفتاحا كبيرا على انتقاد إسرائيل، في حين أن ذلك كان مرفوضا عندما كان شابا. وموقع أمريكي آخر على شبكة الإنترنت يذكر أن الأمريكيين الذين تقل أعمارهم عن 35 عاما لا يعرفون عن إسرائيل إلا سياسات اليمين المتطرف التي تسعى إلى حصر الفلسطينيين في بقع جغرافية صغيرة، وجعل حياتهم لا تطاق، لإجبارهم تدريجيا على الرحيل والهجرة إلى دول أخرى، طلبا للعيش الكريم لهم ولأبنائهم.
أخيرا، ما سبب هذا التحول في الرأي العام العالمي رغم تجريم هجوم 7 أكتوبر من قبل الدول الغربية جميعا؟ بلا شك فإن تزايد الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر للأخبار أصبح حقيقة لا تقبل الجدل، وهذا يحد تأثير الإعلام الغربي التقليدي الداعم لإسرائيل بالحق والباطل. وربما يعزز هذا التحول إمعان إسرائيل في سحق البشر والشجر والمباني، وكذلك بروز القطب الصيني وتزايد تأثيره من خلال وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة مثل "تيك توك" الذي أصبح مصدرا رئيسا للأخبار خاصة لدى الشباب في جميع دول العالم.
- آخر تحديث :
التعليقات