رغم مشاعر الارتياح النسبية بالتوصل إلى هدنة مؤقتة تتيح لأهالي قطاع غزة المنكوب فسحة من الهدوء ومزيداً من مواد الإغاثة الإنسانية، لم تغادر الأسئلة الكبرى لما بعد انتهاء الهدنة العقل المصري، رسمياً وشعبياً. فالتهديدات الإسرائيلية بالعودة إلى آلة القتل والتدمير بقوة أكبر مما كانت عليه قبل الهدنة، وعدم السماح لأهالي الجزء الشمالي بالعودة إلى منازلهم، يعنيان أن ما يلي الهدنة سوف يظل يحمل كثيراً من التهديدات والتحديات، وكل منها يتطلب موقفاً حاسماً وتحركات دؤوبة في أكثر من اتجاه.

العنصر الأهم للسياسة المصرية يمزج بين العمل على بناء حالة من الهدوء من جانب، أي توقف آلة القتل تماماً، ثم البحث في قضايا وإشكاليات المرحلة الانتقالية في غزة، والتي تبدو حتمية، فضلاً عن إنعاش الحل التاريخي للقضية الفلسطينية وفق رؤية الدولتين من جانب آخر. وكلاهما يحققان أحد أهم ما بات يعرف بخط أحمر لا تنازل عنه، وهو منع النزوح الفلسطيني من غزة إلى مصر، أو إلى غيرها من الدول.

يدرك المصريون – وكذلك الفلسطينيون والعرب- أن لا ضمانة مؤكدة يمكن التعويل عليها بشأن وقف آلة القتل في غزة، وتخلي حكومة الحرب الإسرائيلية عن مشروعها المعلن في تهجير الفلسطينيين، وإعادة احتلال القطاع، وتحديداً الجزء الشمالي منه. ورغم التوافق الظاهري بين الموقف الأميركي الجديد الذي عبّر عنه الرئيس بايدن مؤخراً، والرافض احتلال إسرائيل لغزة، ومبدأ التهجير القسري، والالتزام بحل الدولتين، وأن يكون حكم القطاع بيد الفلسطينيين أنفسهم والسلطة، بعد تجديدها -حسب وصفه- وبين الموقف المصري إجمالاً، فمن الصعوبة بمكان التعويل على تلك المواقف باعتبارها نهائية، فقد تعودنا كثيراً على تبدل المواقف الأميركية والغربية ما دامت تعترض عليها إسرائيل، وتعرف كيف تفشلها من الداخل الأميركي نفسه. كما أن ملابسات وتحديات الحملة الرئاسية الأميركية والموقف الصعب الذي يواجهه الرئيس بايدن من قبل يسار الحزب الديمقراطي وغضب الحزب الجمهوري، يمثل قيوداً عملية تخفض أي توقعات مهمة من البيت الأبيض في المدى الزمني الراهن. ومن ثم تظل مهمة مجابهة التحديات المحتملة بيد المصريين أنفسهم.

ومع توقع مزيد من الهجمات الوحشية على القطاع بعد السابع والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري -وهو اليوم الأخير من الهدنة الأولى إذا لم تمدد- يزداد القلق بشأن المصاعب الحياتية التي يمكن أن تحدث في جنوب القطاع بعد تلك التي حدثت في شمال القطاع، وما يعنيه ذلك من ضغوط أكبر على الفلسطينيين في القطاع كله، وليس في قسم منه وحسب، ما قد يدفع كثيراً منهم إلى البحث عن طريق يحقق لهم حياة مختلفة أقل إيلاماً وأقل تعرضاً للموت والقتل العشوائي، ومن ثم تبدو معضلة فتح معبر رفح بمثابة المشكلة والحل معاً. وبينما لا مشكلة في فتح المعبر لعبور المساعدات بكافة أشكالها، فإن فتحه من دون ضوابط تتعلق بالأفراد يعد بمثابة المشكلة الأكبر، لا سيما أن هناك طرفين -وفقاً لاتفاق المعابر 2005- يقومان بأدوار مختلفة في هذا الشأن، أحدهما غائب عملياً، وهو السلطة الوطنية التي حلت سلطة «حماس» محلها بشكل واقعي، والآخر الإسرائيلي، يستهدف فتح المعبر في اتجاه واحد، اتجاه الأراضي المصرية من دون عودة، ما يشكل أحد أبرز مصادر القلق لدى مصر.

فتح أو إغلاق معبر رفح في ظل حالة من الضبابية السياسية والأمنية يشكل صداعاً مصرياً، والثابت أن مصر لن تسمح بأن يكون المعبر بوابة لتهجير الفلسطينيين. أكد على ذلك الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مرات عدة، وآخرها في اللقاء الجماهيري الذي ضم أطيافاً من المجتمع المصري، في 24 الشهر الجاري، والذي شهد أيضاً توجيه جملة من الانتقادات الحادة للسياسة الإسرائيلية ومنهج العقاب الجماعي الذي نفذته إسرائيل، وتصرُّ على الاستمرار فيه بعد انتهاء الهدنة. فالطلقات الطائشة، وفقاً للسيسي: «لا تفرق بين طفل وامرأة وشيخ؛ بل دارت آلة القتل بلا عقل يرشدها، ولا ضمير يؤنبها، فأصبحت وصمة عار على جبين الإنسانية كلها».

وفي هذا الصدد، تبرز أيضاً كلمة الرئيس السيسي؛ حيث انعقاد العزم على المضي قدماً في مواجهة هذه الأزمة، والتمسك بحقوق الشعب الفلسطيني التاريخية، والقبض على «أمننا القومي المقدس»، وبذل الجهد والدم: «متحلين بقوة الحكمة وحكمة القوة، والبحث عن الإنسانية المفقودة بين إطلاق صراعات صفرية تشعلها أصوات متطرفة».

مثل تلك العبارات الصريحة في إدانة العقلية الإسرائيلية المتصورة أنها في صراع صفري ستحقق فيه النصر الكامل، تقابلها الخسارة الكاملة للفلسطينيين، منظمات وشعباً وسلطة ومقاومة، والربط المباشر بين أزمة القطاع والأمن القومي المصري المقدس، وإعلاء المعاني الإنسانية في الحركة المصرية مقابل فقدانها لدى كثير من القوى الدولية، تجسد الرؤية المصرية بأن الأزمة مملوءة بالتحديات والتهديدات، وأن الأيام المقبلة ستحمل كثيراً من الضغوط، الظاهرة والباطنة، والساعية ربما إلى توريط مصر في نكبة فلسطينية جديدة، يصعب أن تمر أياً كان الثمن.

النزوح الفلسطيني في الرؤية المصرية ليس مرفوضاً باعتباره خطوة لتصفية القضية الفلسطينية فقط؛ بل باعتباره يلقي أعباء هائلة على الدولة المصرية، ويلغي عملياً كل تاريخها الناصع لدعم القضية الفلسطينية والحق في دولة وسيادة وحياة كريمة للفلسطينيين، شأنهم شأن أي شعب آخر على هذه البسيطة. ورغم الهدوء النسبي حول مشروع تهجير أهل غزة، مقارنة بما كان عليه الوضع في الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي على القطاع، فإن الواقع يثبت أن الفكرة لم تمُت بعد، وأن هناك صيغاً مختلفة تطرح في الدوائر الأميركية والغربية، وأن البحث جارٍ حول كيفية تطبيق المشروع بطريقة تبدو هادئة شكلاً، وتحقق المطلوب إسرائيلياً موضوعاً.

ويُلاحظ هنا تصريح منسوب لمصدر مصري حول قيام دبلوماسيين أوروبيين بزيارة لسيناء، وتوجه البعض منهم إلى العريش لمتابعة دخول الإمدادات الإغاثية إلى القطاع؛ لكنهم يتجولون ويسألون حول الأماكن الخالية من السكان، وكيفية الوصول إليها، ومدى توفر سبل الإعاشة فيها، وكأنهم في مجال تحقيق ميداني يستهدف بلورة رؤية عملية لخطط تحت الإعداد. والمهم هنا أن الجهات المعنية ترصد وتحلل وتضع الضوابط لمواجهة السيناريوهات المتوقعة، من دون أدنى تنازل عن ثوابت الأمن القومي المصري، وثوابت الرؤية المصرية بشأن مستقبل القضية الفلسطينية.