في إطار البحث والدراسة عن مناطق التجمعات البشرية في البحرين، والتي كانت جزءًا من الهوية الوطنية تتكشف أمور كثيرة، منها كيف تشكّلت تلك المناطق؟ وكيف تجانس الناس فيها رغم اختلافاتهم؟ وكيف توحّدت لهجاتهم وثقافاتهم ومن ثم تم الخروج بهوية وطنية موحدة؟ وهي الهوية البحرينية، ولعلّ من أبرز تلك المناطق هي الفرجان القديمة التي يتسابق اليوم إليها الكثير من الباحثين والدارسين إلى تحديدها رغم التغيرات التي طرأت عليها، فالكثير من أهل الفرجان قد انتقلوا إلى مناطق حديثة، ذات خدمات حديثة، مثل الشوارع والطرقات الواسعة، والمواقف والاستراحات والحدائق، وغيرها من سبل الراحة.

ومن أبرز المناطق التي شهدت كثافة في التجمعات البشرية هي الفرجان القديمة بالمحرق والمنامة، لذلك نرى الحنين لتلك الفرجان من أهالي تلك المناطق والذين خرجوا منها، والجميل اليوم هو تدوين القصص والحكايات التي شهدتها الفرجان، وتحديد أسماء العوائل والشخصيات البارزة فيها، وقد يعود السبب لذلك التدوين إلى محاولة التناغم بين فرجان الزمن الجميل والتطور السريع الذي يشهده المجتمع، فرغم التطور والحداثة إلا أن الماضي الجميل دائمًا ما يفرض نفسه.

فرجان المحرق والمنامة القديمة لا تزال تنبض بالحياة، وكم هو جميل حين يتمشى الفرد بين دواعيسها وفرجانها، وبين أسواقها وقهاويها ومحالها، خاصة أيام الجمع والسبت والإجازات الرسمية، ومن المؤسف أن بعض تلك الفرجان قد هجرها أهلها، وتم استيطانها بأجانب وافدين، وكان بالإمكان تحديث تلك الفرجان وبيوتها من أجل استمرار بقاء العوائل القديمة فيها، فهناك اليوم صراع داخلي بين الآباء الذين انتقلوا إلى مناطق حديثة وبين أبنائهم الذين لا يرتبطون بتلك الفرجان إلا بالاسم الذي ورثوه!.

فرغم العمران والتطور السريع الذي تشهده البحرين إلا أن من الأهمية المحافظة على الفرجان القديمة بكل ملامحها وتفاصيلها، فهي إرث حضاري صنعه الأجداد في غابر الأزمان حين كانوا يركبون البحر من أجل اللؤلؤ والتجارة، فعملية التطوير والتحديث يجب أن تتوازى مع المحافظة على المباني والبيوت، فلا يمكن طمس التاريخ والهوية من أجل بناء مجتمع جديدة، وكما قيل قديمًا: (إلي ما له أول، ما له تالي)، فلا يمكن تغيب فريج في المنامة أو المحرق رغم الشواهد التاريخية، يجب وضع خطط استراتيجية لإعادة أحياء الفرجان القديمة بالمنامة والمحرق وسائر مناطق البحرين، فتلك الفرجان تعكس حالة التنوع والتجانس المجتمعي.

وإن كانت فرجان المنامة قد تغيرت كثيرًا بسبب العمالة الوافدة إلا أن فرجان المحرق لا تزال تحافظ على الكثير من ملامحها ومقوماتها، وكلا المدينتين تحافظان على طابعهما التقليدي وتراثهما المعماري رغم التحديات، ومع ذلك فإن عملية التطوير لتلك الفرجان جعل الزائر والسائح يتنسم فيهما رائحة الماضي وعبق الزمن الجميل، فهناك لا تزال البيوت الطينية والحجرية، والنوافذ والشبابيك الخشبية، والأبواب المصنوعة في الهند.

يثار تساؤل كبير عمن بقي في تلك الفرجان من الأهالي؟ والحقيقة أن نسبة البحرينيين المتواجدين في تلك الفرجان (المحرق والمنامة) نسبتهم قليلة، لذا يجب أن توضع خطة استراتيجية لإعادة أعمال تلك الفرجان مع المحافظة على مسمياتها، ومن ثم محاولة إعادة الأهالي إليها، فأبناء تلك المناطق لا زالوا يحملون الحب والوفاء لفرجانهم القديمة، ويتفاخرون بالانتساب إليها، ويتمسكون بتاريخ آبائهم الذين عمروا تلك المناطق، فالفرجان القديمة لا تزال تحتفظ بنكهة الزمن الجميل، فلم يتغير من فرجانها الشيء الكثير، فالبيوت القديمة لا تزال قائمة في أماكنها، والدواعيس والفرجان هي كما كانت، ولا يسمع فيها إلا أصوات الطواويش والنواخذة والبحارة، ويشم منها رائحة البحر والأسياف والشواطئ، وفي الأسواق هناك القهاوي (المقاهي) القديمة، فالمنامة والمحرق مقصد أبناء الخليج العربي.