يعيش لبنان، هذه الأيام، وأكثر من أي وقت مضى، بين فكيّ كماشة. فالتهديد الإسرائيلي بتدميره رفضاً لوجود «حزب الله» العسكري في الجنوب اللبناني، دفع بدول القرار إلى إعادة الكلام عن ضرورة تطبيق القرار 1701 من الجانب اللبناني حصراً، وذلك بإنشاء منطقة عازلة في الجنوب اللبناني بإدارة قوات حفظ السلام (اليونيفيل).

بكلام أوضح، تشير حركة الموفدين الدوليين إلى ربوعنا الذابلة إلى نية لإرغام «حزب الله» على سحب آلته العسكرية من جنوب الليطاني، وتحديداً «فرقة الرضوان»، التي يتم استهداف مقاتليها، عندما تتيسر للعدو معلومات استخباراتية عن تواجدها في القرى الجنوبية، تحت ذريعة ضمان حدوده الشمالية.

وأكثر من ذلك، بالإضافة إلى تهديداته المتعلقة بالحرب، يوسّع العدو الإسرائيلي مروحة تهديداته بتصفية حركة «حماس»، «ليس فقط في غزة والضفة، وانما أيضا في لبنان وحتى تركيا وقطر»، وفق التصريحات الأخيرة لرئيس جهاز الأمن العام الإسرائيلي «الشاباك» رونين بار.

في المقابل، يأتي إعلان «حركة حماس - لبنان»، تأسيس «طلائع طوفان الأقصى» ودعوتها اللاجئين الفلسطينيين إلى الانضمام إليها «للمشاركة في صناعة مستقبل شعبكم، وفي تحرير القدس والمسجد الأقصى المبارك»، ليذكرنا بأنّ الأمن والسيادة في لبنان لطالما كانا أوهى من خيوط العنكبوت، حتى خلال العصر الذهبي للدولة، بمؤسساتها واقتصادها وانفتاحها وثقافتها، عشية حرب 1975.

فما بالنا بالوقت الراهن، بعد إبادة الدولة لمصلحة المحور الممانع، وحيث الانقسام العمودي بين اللبنانيين يحول دون استيعاب الخطر الحقيقي الذي يهدد وجودهم، حتى منذ ما قبل «حرب غزة»، وما قبل اضطرار «حزب الله» إلى الدعم والمساندة وغض النظر عن استباحة «حماس لاند» للساحة اللبنانية المستباحة.

وهذا الانقسام جعل وتيرة التخوين هي الطاغية على الخطاب الممانع، ليصبح معارضوه ضد القضية الفلسطينية وخونة وصهاينة... ونقطة على السطر.

وهؤلاء المعارضون يعتبرون أنّ الحزب ورأس محوره سبب خراب لبنان، وأنّ «حرب غزة» كشفت المستور، وكل ما يهم رأس المحور هو مصالحه ونفوذه من خلال المتاجرة بالقضية الفلسطينية وبدماء الأطفال. وتحرير القدس لا يتحقق بالشعارات... و»توحيد الساحات» لم ينتج إلا الهزائم... وأيضاً نقطة على السطر.

بالتالي، ليس أمام اللبنانيين إلا توقع المزيد من الانقسام والانهيار والانزلاق إلى ما كان عليه الوضع خلال الحرب الأهلية، وإن من دون خطوط تماس ومتاريس. فالبدائل الدموية متوفّرة لكل فريق على ضفتي الصراع، ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو لم يعد لديه ما يخسره إن هو أقدم على أي مغامرة تبيد لبنان في استشراس غير مسبوق ليغطي فشله في تحقيق أهدافه المعلنة من «حرب غزة».

كذلك فإنّ الانقلاب على المواقف والشعارات، وحتى الوعود والتعهدات المتعلقة بالوضع اللبناني وأمنه واقتصاده ومصادرة سيادته، هو دستور الممانعة الوحيد من رأسه إلى أذرعه، سواء مع توريط لبنان في «حرب تموز» 2006، أو باجتياح بيروت عام 2008، أو نسف حكومة سعد الحريري عام 2010، أو السماح لميشال عون وصهره جبران باسيل بعد إيصالهما إلى قصر بعبدا بالقضاء على الدولة ومؤسساتها. ولا شيء يبدو قد تغير إلا لدى الساذجين من القوى السياسية المعارضة لهذا المحور وامتداداته.

والواضح أنّه وفي ظل التطورات المتسارعة، إقليميا ودوليا، أصبح لبنان حلقة ضعيفة يمكن استثمارها وانتهاكها، كونها تتيح لكل من يريد تسطير انتصارات «يقرِّشها» أينما اقتضت مصلحته.

ولبنان الدولة والمؤسسات وحلم الوطن النهائي لأبنائه، عالق بين سطور الداخل وسطور الخارج، ومشلول مع إطباق فكيّ الكماشة على كيانه، وسط صمت أولاد المنظومة المتواطئين والمتفرجين على إسرائيل التي تهدد وحركة «حماس» التي تجنّد.