أرض فلسطين، منذ لعنة التقسيم، موبوءة بالصراعات و الكوارث البشرية، وهي تصرخ وتئن دومًا من ألم الجراح وفقدان الأهل والأحباب ومن إبادات بشرية وهدم البيوت على ساكنيها بين حين وآخر، ومن تَخَطٍّ مستمر لخطوط التقسيم نفسها، حتى بات التقسيم يقترب عامًا بعد عام الى التصفير، بمعنى موت التقسيم.. كامل فلسطين اليوم تتحكم فيها وعليها إسرائيل رغم سلطة فلسطينية عاجزة على فسيفسائات أرضية مفككة في الضفة الغربية، وسلطة فلسطينية منافسة تتأرجح بين اليأس والطموح على شريط حدودي ضيق على البحر بين مصر وبقية فلسطين تسمى غزة.. شريط غزة مع البقع الأرضية المتبقية من الضفة الغربية غير مؤهلة لإنشاء دولة، وهذا هو أول الغيث لإسرائيل أمام استحالة تنفيذ التقسيم الذي من المفترض أن يكون تحت رعاية أممية وبصك حقوقي أممي، ومأزق التقسيم هو أحد العناصر العديدة التي تساهم في مأزق هيئة الأمم المتحدة ذاتها، فماذا سيكون صورة او شكل او مصير هيئة الأمم المتحدة إذا هي فشلت في مصداقيتها أمام قراراتها؟
ومن نكد التقسيم على ضحايا التقسيم أن الضحية انقسم على نفسه وفقد ميزة القوة في الوحدة، وأضحى الانقسام و التنافس في جسم الضحية نعمة على اسرائيل. ليس من المرجح فقط ولكن من المؤكد أن لاسرائيل استراتيجية خاصة، منذ قرار التقسيم، لتفكيك شعلة الكيان الفلسطيني الى شظايا بالكاد تولع سيجارة، وهذا ما نلاحظه بوضوح على ما تبقى من النصيب العربي من التقسيم.
من الغباء من الجانب الاسرائيلي، والذي يخطط لالتهام فلسطين كاملة، إن هي لم تعمل بجدية استراتيجية الى تفكيك الجسم الفلسطيني وجعله مجرد تجمعات سياسية و تشكيلات مسلحة تتنافس فيما بينها وتتقاتل. وما جرى بين فتح وحماس على أرض غزة من معارك مؤسفة ومؤلمة أدت الى فصل غزة عن الضفة الغربية، جعل القضية الفلسطينية مجزئة في ذاتها بذاتها، وأخذت تتقلب منهكة بين الضفة والساحل، ناهيك عن وجود عدد من الفصائل المتنافسة، وبعضها متناحرة، في الجانبين، واسرائيل تستغل هذا التشرذم لتعميق الشقاق وزرع عدم الثقة الى درجة التخوين، واسرائيل من جهتها تشغل وسائلها الإعلامية لنشر معلومات كاذبة تصب في مجرى التخوين المتبادل بين الفصائل التي تتحمل مسؤولية تاريخية و انسانية اسمها «القضية الفلسطينية».. اسرائيل تتقدم في اتجاه قتل التقسيم الأممي، وضحية التقسيم الأممي تنقسم على ذاتها معززة بذلك الهدف الإسرائيلي.
الرؤية الصهيونية تطمح الى كامل الأرض الفلسطينية، و قد أعلن عن هذه الرؤية بكل وضوح ديفيد بن غوريون في يونيو 1938، في كلام أمام قيادة الوكالة اليهودية، بشأن اقتراح آخر لتقسيم فلسطين، عن نيّته في إزالة التقسيم العربي - اليهودي والاستيلاء على كلّ فلسطين بعد أن تقوى شوكة اليهود بتأسيس وطن لهم، وكان هذا الإعلان مع بدايات الحرب العالمية الثانية. وبعد الحرب مباشرة وبموازاة قرار التقسيم الأممي جاء التصريح المؤكد لإعلان بن غوريون، ففي بث من قناة الراديو العبرية في 30 نوفمبر 1947، صرّح مناحيم بيغن، الذي كان في ذلك الحين أحد زعماء المعارضة في الحركة الصهيونية، عن بطلان شرعية التقسيم، وأن كل أرض الميعاد والتي تشمل كامل فلسطين (بما في ذلك شرق الاردن ) ملك لليهود وستبقى كذلك إلى الأبد.
ما كان لقرار التقسيم أن يولد لولا ولادة سابقة بوليد اسمه «الصهيونية»، وما كان لهذا الوليد أن يرى النور لولا مصالح القوى العظمى. محورية مصالح القوى العظمى عبّر عنها بثقة ووضوح العالم الشهير البرت اينشتاين في حوار مع محمد حسنين هيكل في نوفمبر عام 1952، في نيويورك، عندما قال لهيكل: «لقد اسعدني قيام دولة يهودية في فلسطين. وأحزنني المأساة التي تعرض لها العرب في فلسطين. وكان في ظني أن القوى الدولية المعنية تستطيع أن تعالج هذه المحنة، ولكن هذه القوى لم تستطع، ولعلها أرادت - لمصالحها - تعميق المشكلة بدلًا من حلها»
خرجت الصهيونية فجأة، وبإخراج درامي، بعد 2000 عام من الاضطهاد ضد اليهود واليهودية تحت سنابك وثنية الرومان ومن ثم تحت لعنات مسيحية الامبراطورية الرومانية التي جمعت بين السلطة السياسية و السلطة الدينية، وامتد الاضطهاد على كامل الجغرافيا الاوروبية التي فرض عليها الرومانُ العقيدةَ المسيحية حتى بعد تفكك وانهيار الامبراطورية الرومانية. اضطهاد اليهود استمر و انغرس بقوة وثبات في السيكولوجية الجمعية على كامل التراب الاوروبي المسيحي، حتى أضحى النفور من اليهود مثل النفور الطبيعي من اي شيءٍ مقزز، وكان من تداعيات هذا النفور المغروس في النفسية الاوروبية أن تولدت في الثقافة الاوروبية بعد عصر النهضة مباشرة قضية جديدة اسمها «المسألة اليهودية»، وقد تم تناول هذه القضية باشكال درامية مثل مسرحية «تاجر البندقية» للكاتب المسرحي البريطاني شكسبير، وفي اطار فكري ونفسي من قبل الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا عندما تناول موضوع عقدة وأزمة هويته اليهودية، ومن ثم الفيلسوف كارل ماركس في كتابه «المسألة اليهودية».. اضطهاد اليهود ورفض اليهود والتقزز منهم، ومن ثم العمل على التخلص منهم، هي كلها شأن أوروبي بالكامل، ولا علاقة لأية أمة او شعب آخر به، وخاصة الشعوب العربية، إذ أن الحضارة العربية - الإسلامية كانت دومًا هي الملاذ الآمن لليهود، وأن مهمة التخلص من اليهود وتطهير أوروبا منهم هي التي خلقت الحركة الصهيونية ومن ثم قرار التقسيم الأممي، الذي أُرِيْدَ منه أن يكون «ضرب عصفورين بحجر واحد»، العصفور الأول هو التخلص من اليهود، و العصفور الثاني هو جعل مجموعة الدول العربية في حال من الصراعات الدائمة خدمة لاستراتيجيات أوروبية وغربية بحتة.
بفعل المسألة اليهودية - الأوروبية، والمستجدات التاريخية لمصالح الغرب في آسيا وافريقيا، ابْتُلِيَ العرب عامة والشعب الفلسطيني خاصة بقضية ليس لهم فيها لا ناقة ولا جمل، بل هم ضحايا قضية أوروبية ومسيحية بحتة مضافًا اليها أطماع أوروبية وأمريكية خالصة… المسألة اليهودية في أوروبا والاطماع الاستعمارية، بقديمها الأوروبي وجديدها الأمريكي، هي التي خلقت «القضية الفلسطينية». ولكن ليس من قضية إلّا ولها حل !!! إذا توافرت الإرادة العقلانية الجادة بعيدة كل البعد عن العاطفية العمياء التي تدور حول نفسها في حلقة مفرغة !!! الحل ليس بالأمر السهل، خاصة وإن قوى كبرى تقف ضد الحل لأنها لا تريد السلام !!!
إذا كانت الإرادة الدولية لا تريد السلام؛ لأن مصالحها الاستراتيجية تحتم عليها ذلك، فكيف السبيل الى السلام؟!!!
وإذا كان الطرف الإسرائيلي في التقسيم يعمل على تصفير التقسيم وتحويل كامل فلسطين إلى إسرائيل، فكيف السبيل الى السلام؟!!!
وتصفير التقسيم قتل للسلام.. وتدلي جريدة لوموند الفرنسية بدلوها على موقع يوتيوب في 22 أكتوبر 2023، بعد أسبوعين من العملية العسكرية المميزة لحماس، بالسؤال التالي: «إلى أين تتجه إسرائيل؟ هل ما زال السلام ممكنًا؟»، وتجيب قائلة: «ترجع أصول السياسة الإسرائيلية الحالية إلى إيديولوجية قديمة مهمشة منذ فترة طويلة، والتي تمتد الآن عبر المجتمع، وصولاً إلى قمة السلطة: الصهيونية الدينية، وأن المتطرفين الدينيين والقوميين المتطرفين والعنصريين، والوزراء الذين عينهم بنيامين نتنياهو على رأس إسرائيل، إنهم جميعًا يشتركون في نفس الموقف تجاه الفلسطينيين: لا تتفاوضوا».
وإذا كانت هيئة الأمم المتحدة التي أصدرت قرار التقسيم عاجزة، أمام الإرادة الدولية وأمام التعنت الإسرائيلي، فكيف يمكنها تثبيت التقسيم، دولة إسرائيلية وأخرى فلسطينية، وإنقاذ السلام من الموت المحقق ؟!!!
وإذا كان الضحية، وهو الشعب الفلسطيني ذاته، منقسمًا على نفسه ويخوض صراعات داخلية على زعامة القضية، مما يضعف شوكته ويعطل فاعليته ويستهلك قدراته و مقدراته، فكيف السبيل الى تفعيل النضال لحل القضية المتعسرة على الحل، ومن ثم إحلال السلام ؟!!!
الوضع على أرض فلسطين المفككة والمشتعلة ليس في حاجة الى تصريحات ولا تعليقات سياسية متكررة مملة مربكة ولا صيحات استنكار ضد طرف وتأييد لطرف، و لكن الى أسئلة واستفسارات ودراسات ميدانية جادة وملتزمة، يمكن من خلالها تحسس الأسباب التي تعطل عملية التقسيم وإحلال السلام، والذي يمكن بعدها معرفة الواقع بكامل عناصره، ومن ثم تحديد مسار «ما العمل؟».
«ما العمل ؟» كرة في ملعب الشعب الفلسطيني أساسًا، الذي لا بد له أن يتسلح بقوة الوحدة والتي هي رأس الحربة لحل القضية وإحلال السلام، ومن ثم تتدحرج كرة «ما العمل؟» الى الأمم المتحدة أولاً والدول العربية ثانيًا والدول ذات المصالح المتداخلة مع الدول العربية ثالثًا.. فهل من سبيل إلى «رأس حربة فلسطينية واحدة» تمهد الطريق وتيسر السبل الى تفعيل العناصر الثلاثة في معادلة دولية واحدة من أجل إحقاق الحق وإحلال السلام؟