حسب الإعلام التركي، سيتم ترحيل 200 ألف لاجئ سوري في العام المقبل، وهؤلاء سيُدفع بهم إلى المناطق التي تسيطر عليها تركيا في شمال سوريا. أكذوبة "العودة الطوعية" للاجئين إلى بلادهم صار ممكناً الاستغناء عنها، وربما بات الحكم التركي يرى من الأفضل له إظهار أنه يرغم اللاجئين السوريين على العودة، ليكون قد أدى دوره في أجواء العنصرية الشائعة ضدهم.

وفقاً لتقرير نشرته صحيفة "Türkiye Gazetesi" قبل أربعة أيام، تعمل وزارة الداخلية التركية بالتنسيق مع وزارات أخرى بهدف تحقيق هذا الهدف، مركزةً على تطوير إجراءات فعّالة لعمليات الترحيل، بالإضافة إلى إقامة نظام فعّال للتأشيرات وتصاريح الإقامة. أما شرحُ هذا الكلام العمومي فتتولاه مصادر من حزب العدالة الحاكم بتصريحات للصحيفة ذاتها تنص على أن اللاجئين سيجدون ظروف الحياة قد أصبحت أكثر صعوبة بالنسبة لهم، ما سيدفعهم للعودة إلى بلادهم.

ثم لا تتحرج المصادر ذاتها من قول المزيد عن أن الإجراءات والعراقيل ستدفع اللاجئين إلى العودة، مع ذكر أمثلة على ما سيلاقونه من تعقيدات إدارية خاصة بالسكن، وترحيل الأشخاص الذين يتنقلون بلا إذن سفر "وربما يتضمن ذلك عرقلة حصولهم عليه عند الضرورة"، ومنعهم من تشكيل تجمعات مع منعهم من استخدام لافتات باللغة العربية... إلخ. بعبارة أوضح، تهدد هذه المصادر السوريين بالمزيد من العراقيل، كي يتحقق بمختلف أساليب الترهيب هدف طرد 200 ألف سوري في العام المقبل.

يُذكَر أن الحزب الحاكم نفسه تولى في السنوات الأخيرة الترويج لـ"عودة طوعية لمليون لاجئ إلى بلادهم"، وهو عنوان مضلِّل على العديد من المستويات، أولها أن هؤلاء لا يعودون إلى منطقة آمنة على نحو مستدام. أما الاعتبار الثاني فيتعلق بالغش المتضمَن في "عودة اللاجئين إلى بلادهم"، فمشروع الطرد غير المباشر "أو المباشر أحياناً" لا يتعلق بسوريين ينحدرون أصلاً من المناطق الواقعة تحت النفوذ التركي، وتتم إعادتهم إليها رغم كونها غير آمنة.

التعليمات تنص على إعادة اللاجئ، من أينما أتى في سوريا، إلى الشمال ليكون نازحاً هناك. الدفع بالشامي أو الحمصي إلى جرابلس أو أعزاز، أو إلى عفرين أو رأس العين، ليس إطلاقاً بمثابة عودة. إجباره على ذلك يختلف أيضاً عن الحق النظري لأي سوري في التنقل ضمن بلاده، وفي تغيير مكان عمله وإقامته، حتى إذا لم نأخذ في الحسبان دوافع استخدام هؤلاء الذين تتم إعادتهم ضمن مخططات للتغيير الديموغرافي، ليكون جانباً آخر من مأساتهم في استخدامهم الخبيث وإكراههم على وضع لا يليق بكراماتهم قبل أن يكون جائراً في حق سوريين آخرين.

ربما لا يعلم كثر أن الشمال الواقع تحت النفوذ التركي يقطنه ما يزيد عن أربعة ملايين سوري، منهم 2.7 مليون يتلقّون مساعدات مباشرة من الأمم المتحدة، بينما يتلقى الجميع مساعدات غير مباشرة عبر الدعم الذي يحصل عليه القطاع الصحي مثلاً، وأيضاً عبر فرص العمل التي توفّرها الهيئات الدولية الناشطة في الشمال. والوضعية هذه برمتها تحت رحمة النوايا الروسية، فموسكو قادرة كل ستة شهور على عرقلة وصول المساعدات إلى المنطقة على سبيل الابتزاز، وقادرة على إيقاف المساعدات نهائياً، وقد يتعزز ذلك كله بنموذج الحرب الإسرائيلية على غزة والدعم الأمريكي الذي تجاهل الاعتبارات الإنسانية الخاصة بالمدنيين. أما منظمة الأمم المتحدة فهي تتعاطى مع المشكلة على اعتبار هذه الأراضي خاضعة لسيطرة الأسد، رغم وجودها تحت النفوذ التركي، ما ينعكس سلباً على أهالي المنطقة واللاجئين إليها.

الحديث هنا عن عدد من السكان يعادل تقريباً عدد سكان غزة مرتين، غزة الموصوفة قبل الحرب الأخيرة عليها بأنها سجن كبير مفتوح السقف. وحتى إذا لم تعرقل موسكو وصول المساعدات فإنها معرَّضة للتوقف أو الشحّ الشديد، وقد أعلن برنامج الغذاء العالمي وقف مساعداته الغذائية في أنحاء سوريا في الشهر المقبل بسبب أزمة التمويل، ومن المرجَّح أن تتفاقم أزمة التمويل مع الاحتياجات الملحّة لغزة بعد انتهاء العدوان. وقد نقلت وكالة سانا قبل يومين عن برنامج الغذاء أن "عوامل كمستوى الاحتياجات الإنسانية غير المسبوق حول العالم، والتحديات الاقتصادية.. أدت إلى عدم قدرة هذه الجهات على تقديم نفس المستوى من الدعم لسوريا، موضحاً أن أزمة التمويل الحالية تجبره على تقليص مساعداته المنقذة للحياة على مستوى العالم في وقت وصل فيه الجوع الحاد إلى مستويات قياسية".

في أحسن الأحوال، إذا افترضنا استمرار الهدنة أو بقاء التصعيد العسكري مضبوطاً فلم تكن حيواتهم مهدَّدة بالحرب، تنوي أنقرة رمي 200 ألف سوري إضافي إلى هذا البؤس، إلى المكان الذي لا يحظون فيه بأي اعتبار قانوني، إذ تستطيع أنقرة التنصّل من مسؤولياتها إزاء الملايين هناك بذريعة أن وجود قواتها مؤقت ولدواع أمنية فقط، ويتنصل الأسد من مسؤولياته مطالباً بخروج القوات التركية منها، رغم أنه يستغل سيادته الإسمية ليعرقل وصول المساعدات.

لطالما امتُدح تعامل السلطات التركية مع اللاجئين السوريين، بالمقارنة مع باقي السلطات في الجوار السوري، وحضرت المقارنة تحديداً بين وضع السوريين في مخيمات الجوار ووضعهم في تركيا التي تستضيف العدد الأكبر منهم من دون أن يعانوا ذلّ المخيّمات. ربما، للمفارقة، يكون السبيل الوحيد المتاح لمواجهة نوايا أنقرة مطالبتها بافتتاح مخيّمات في تركيا لأولئك الذين تنوي ترحيلهم، ووضع هذه المخيمات تحت إشراف المنظمات الدولية بحيث لا تتحمل أنقرة العبء الاقتصادي لوجودهم على أراضيها، خاصة أن الدعاوى العنصرية ضدهم تتغذى بشكل رئيسي من هذا الجانب.

بوجود اللاجئين في المخيّمات، يكون لهم على الأقل وضعية قانونية واضحة دولياً، أي بوصفهم لاجئين وفق القانون الدولي، وتستطيع أنقرة تحمّل هذه المسؤولية الأدبية وإعلان عدم قدرتها على تحمل الشق الاقتصادي. وتستطيع، إذا توفرت النوايا الحسنة، تخيير الذين تهددهم بالترحيل بين ترحيلهم إلى الشمال والبقاء ضمن مخيّمات في تركيا.

انخفض عدد السوريين في تركيا في الشهر الماضي إلى 3.288 ملايين، هؤلاء بمعظمهم سيتعرضون للمضايقات من أجل "اصطفاء" 200 ألف للترحيل. هم ممنوعون، تحت طائلة الترحيل، من إنشاء تجمعات، ولا يُستبعد أن يكون المنع استباقاً لتشكيل هيئات تدافع عنهم وتفضح الإجراءات التعسفية ضدهم. يحتاج هؤلاء حكومات وهيئات من خارج تركيا تتولى الدفاع عن حقوقهم، أما ائتلاف المعارضة الموجود في تركيا فهو بالطبع غير معنيّ بهم.