دخلت الإنسانية الاثنين الماضي العام 2024 في أعقاب سنة كانت مليئة بأحداث يجمع المراقبون أنها قد تكون حاسمة في تغيير نظام العلاقات الدولية الذي فرض نفسه بعد الحرب العالمية الثانية.

وكانت سنة 2023 صعبة على البشرية لجهة أنها جاءت بعد أزمة «كورونا» الصحية التي عمقت هي الأخرى أزمة اقتصادية كانت سائدة وكان لها تداعيات اجتماعية وسياسية وحتى نفسية على الأفراد والمجتمعات.

وكل هذا ساهم بشكل كبير في نشوء وتطور سلوكيات انعزالية وقومية لدى الدول والمجتمعات بما فسر وعمق صعود موجات اليمين واليمين المتطرف في دول الغرب الليبرالي تحديداً وكذلك تنامي موجات المد الشعبوي في عدد من مناطق العالم.

وإن أهم ما كان يميز نظام العلاقات الدولية بعد الحرب الثانية هو ما عرف بكونية حقوق الإنسان ونظام العولمة والذي قاد مباشرة إلى الاعتقاد وحتى التسليم بـ«نهاية التاريخ» بعد سقوط جدار برلين في نوفمبر 1989 وهو ما عبر عنه بوضوح الفيلسوف الأمريكي فرانسيس فوكوياما في كتابه «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» الصادر سنة 1992 .

والذي أعلن فيه موت الأيديولوجيا والانتصار النهائي للحضارة الغربية الليبرالية، ولم يحد مفهوم «صدام الحضارات» الذي ساهم في وضع إطاره النظري صامويل هنتنغتون من كونية هذا التوجه، إذ خلص الجميع إلى ضرورة تعديل المنظومة وإيجاد إطار تحاوري للحضارات.

ويعتقد أن سنة 2023 كانت حبلى بأحداث من شأنها أن تغير في العمق مشهد العلاقات الدولية هذا، ومن ذلك، عملية «طوفان الأقصى» التي كشفت الهشاشة الأمنية لدولة إسرائيل وألقت بالكثير من الشكوك على قدرة الولايات المتحدة على حمايتها وعلى لعب دور شرطي العالم، ثم تداعيات ذلك والعدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة والضفة الغربية .

والذي أسقط مفهوم كونية حقوق الإنسان وكشف زيف هذه الحقوق وتوهانها في ازدواجية المعايير، وترسخت معه فكرة أن الخضوع إلى القانون الدولي والدولي الإنساني يخضع فقط لموازين القوى على الأرض بما أضحى يهدد جدياً وفعلياً المنظومة القيمية والقانونية التي فرضها دمار الحرب العالمية الثانية.

ومن الأحداث الحاسمة أيضاً، استمرار الحرب الروسية الأوكرانية والتي ساهمت هي الأخرى في إسقاط مفهوم «نهاية التاريخ» الذي ثبت طابعه الهلامي والوهمي، وبدا أن المشهد المقبل يفتح على عالم متعدد الأقطاب إن كان ذلك على المستوى الاقتصادي أم السياسي أم الثقافي والحضاري وتضطلع فيه الدول بحماية نفسها ذاتياً من خلال تطوير آليات الحماية الذاتية كعودة السباق نحو التسلح النووي.

وبعض ملامح هذا المشهد هو أولاً، الصعود الملفت لأحزاب اليمين وللتيارات الشعبوية والقومية المتطرفة في الكثير من الدول، وثانياً، نزوع الدول إلى تشكيل تكتلات جديدة مثل «البريكس» الذي يتوسع باطراد، وثالثاً السقوط النهائي لكل الحلول الاصطناعية للمشكلات الحقيقية بين الأمم والشعوب ومن ذلك تهاوي «الإسلام السياسي».

إن كل هذه المتغيرات تؤكد بداية الانهيار النهائي لمفهوم العولمة وتؤشر في المقابل على العودة القوية للنزعات القومية وهو ما يعني خلق الشروط الموضوعة لنزاعات إقليمية ودولية جديدة قد لا تجد من يردها وفي أفضل الأحوال فهي تفتح على عودة شكل من أشكال الحرب الباردة وتوازن الرعب الذي من عناصره الأساسية مشاعة السلاح النووي بما يهدد مستقبل البشرية، خصوصاً مع تنامي التطرف القومي والفكر الشعبوي.

إن سنة 2024 التي دخلناها قد تكون سنة المنعرج الأخير نحو عالم تسود فيه النزاعات ويفتح على المجهول، إذا لم تحصل عودة عاجلة للوعي بضرورة العيش المشترك بين مكونات المجتمع البشري مع العمل على احترام تنوعه الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والحضاري.

إن الإنسانية في حاجة ماسة إلى عالم متضامن يقطع مع كل أشكال التوحش الاقتصادي والسياسي وتحتل فيه التنمية المستدامة المكانة الأهم في سياسات الدول، وتقطع فيه البشرية مع السياسات والسلوكيات العدوانية والتي أثبتت فشلها وعدم جدواها، وإن كل الحلول الاصطناعية ومنها العدوان لن تحقق الأمان والتقدم للدول والشعوب وهذا، على سبيل المثال، ما ينبغي على دولة الاحتلال الإسرائيلي وعلى الولايات المتحدة استيعابه والعمل بمقتضاه.