زار وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن المنطقة (4 -11 يناير الحالي). بدأ بلينكن زيارته بتركيا وأنهاها بمصر، وشملت الزيارة: قطر والمملكة العربية السعودية والأردن والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل، والسلطة الفلسطينية في رام الله.
طبعاً: الوزير الأمريكي الرفيع لم يغير موقف بلاده من الحرب الدائرة في غزة، بل أكد على عدم الطلب من إسرائيل وقفها، حتى تحقق أهدافها. محور محادثات رجل الدبلوماسية الأمريكية الأول، يمكن تلخيصه في ثلاثة مواضيع محددة. أولاً: التأكيد على حق إسرائيل مواصلة العدوان على غزة، حتى تحقق أهدافها. ثانياً: استعادة إسرائيل لوضعها المتميز في المنطقة، قبل عملية طوفان الأقصى. ثالثاً وأخيراً: العمل في ما يحدث، بدءاً من اليوم التالي لوقف الحرب.. وبدء التفكير في تصور «أفق سياسي» للمسألة الفلسطينية.
المشكلة، هنا: أن بلينكن يتحدث عن النصر لإسرائيل، والجيش الإسرائيلي لم يحقق، بعد مائة يوم من الحرب، أياً من أهدافه. لم تتمكن إسرائيل من تحرير أسير حي واحد.. ولم يستطع الجيش الإسرائيلي ادعاء السيطرة الميدانية الثابتة على شبر واحد من أرض غزة، ولم توقف المقاومة عن إطلاق الصواريخ. هذا بالإضافة لإعلان الجيش الإسرائيلي عن فقدان عشرات الآليات والقتلى والمصابين من نُخبة جنوده، يومياً، دون الفَتّ من عزيمة رجال المقاومة، دعك من كسر إرادتهم عن مواصلة القتال.
حسناً، لنفترض، جدلاً: أن اليوم التالي، سيأتي بالشكل الذي يصوره بلينكن، ماذا يا ترى في جعبة رأس الدبلوماسية الأمريكية للبدء فوراً من اليوم التالي لوقف الحرب. مع الأخذ في الاعتبار، أنه: لم تكن من أولويات المستر بلينكن، التعامل مع الآثار المدمرة التي خلفتها الحرب في غزة؛ إنسانياً وعمرانياً واقتصادياً وحياتياً، أبداً، ذلك لم يَطُفْ بخلدِ رأس الدبلوماسية الأمريكية، إطلاقاً.
هَمُ الوزير الأمريكي الأول: ترميم الأضرار النفسية والاستراتيجية والعسكرية والأخلاقية والسياسية، التي لحقت بإسرائيل الدولة الديمقراطية، التي تملك جيشاً مهاباً لا يقهر. في غفلة ونكران لكل ما حدث خلال أطولِ حربٍ خاضتها إسرائيل، لم تستطع حسمها، كبقية الحروب ضد العرب، يطلب الوزير بلينكن من الدول العربية، مواصلة جهود استيعاب الدولة العبرية في المنطقة، لأن هذا -في رأيه- أنجع طريق لإشعار إسرائيل بالأمن وتشجيعها على مواصلة السير في طريق السلام! جدلٌ لطالما تمسكت به الولايات المتحدة وحاولت أن تسوقه، ونجحت في مشاريع سابقة تبنتها، ويشهد العالم أنها لم تسفر إلا عن مزيدٍ من تعنُّت إسرائيل.. واستمراء عنفها.. واستفحال شراسة سلوكها.. ومواصلة عدوانها.. وتكريس سياستها التوسعية الاستيطانية، مع تفاقم خطرها على سلام المنطقة والعالم.
الجديد الذي أعلن عنه الوزير بلينكن، زعمه أن بعض الدول التي زارها وعدته بدءاً من اليوم التالي لنهاية الحرب، أن تسارع في اتخاذ قرارات صعبة، لاستيعاب إسرائيل في المنطقة! حسناً: مقابل ماذا كل هذا، يرد بلينكن: البدء في مرحلة قادمة، وليس من اليوم التالي لوقف الحرب، بالطبع، التفكير في تصور «أفق سياسي» للتعامل مع المسألة الفلسطينية! «أفق سياسي»، ليس بالضرورة ينتهي لإقامة دولة فلسطينية! ثُمّ كم من الوقت يأخذ تطوير هذا «الأفق السياسي»، ربما يترك ذلك لعامل الزمن، حتى تُصفى القضية، بعوامل التعرية التاريخية.
ثم الوزير بلينكن، لم ينسَ بالطبع التعامل مع غزة وأهلها، طالباً من الدول التي زارها التكفل بإعادة تعمير القطاع، ربما ثمناً أو مقابلاً لتعاون إسرائيل في مرحلة التفكير في «الأفق السياسي» للمسألة الفلسطينية، وبالتالي: إعفاء إسرائيل من التكلفة المادية لإعادة إعمار غزة والتكلفة السياسية والأخلاقية للجرائم التي ارتكبتها ضد أهل غزة، وتحميل كل ذلك للعرب. بل زاد بلينكن في إجراءات التنكيل ضد غزة وأهلها بربط أي مساعدات تدخل للقطاع، عن طريق معبري إيرينز وكرم أبو سالم الإسرائيليين، ليغلق تماماً سجن غزة الجديد ويسلم مفتاحه لإسرائيل.. ولم يعد هناك حاجة لمعبر رفح المصري، إلا تحقيق الهدف الاستراتيجي الكبير للحرب، بتفريغ غزة قسرياً أو طوعاً، من أهلها.
فشل مشروع اليوم التالي، الذي جاء به الوزير بلينكن، يكمن في حقيقة ارتكازه على فرضية غير صحيحة، مفادها: أن إسرائيل ستنتصر في الحرب.. وأن اليوم التالي لوقف الحرب، هو احتفالية لإعلان انتصار إسرائيل في أقذر حرب شهدها التاريخ.
- آخر تحديث :
التعليقات