في المرحلة الأخيرة من حياته انصرف إلى توجيه انتقادات لاذعة ضد انحطاط العالم الغربي، والدفاع عن القومية الروسية التي تتغذّى من التقاليد والتعاليم المسيحية الأرثوذكسية، وأفرط في ذلك السلوك حتى أصبح شخصية مزعجة راح يطويها النسيان وتعزف وسائل الإعلام عن الاهتمام بأخباره. لكن بعد مرور سنوات على رحيله، صار بوسعنا أن نحكم برويّة وتجرّد على هذا المفكّر والكاتب الذي أثارت آراؤه وتنبؤاته من الجدل والخلافات ما لم يثره غيره من الكتاب والمفكرين طوال القرن الماضي.

صمد قلبه تسعة وثمانين عاماً أمام جملة من الصعاب والمحن التي واجهته على امتداد حياته، من الحرب العالمية ضد الفاشية، إلى التعذيب والحبس الانفرادي طوال سنوات مديدة في مخيمات القمع السوفياتية، والسرطان، ثم المنفى في بطاح سيبيريا، والاضطهاد والرقابة الشديدة، وحملات التشهير، وتجريده من الجنسية ومصادرة مخطوطاته وطرده إلى الخارج. لقد أظهر قدرة خارقة على تحمّل ما يعجز عنه الإنسان العادي ولا يقوى عليه سوى أولئك الذين يتمتعون بإرادة نادرة ترفعهم إلى مصاف الأبطال والأساطير.

لم يكن من كبار المبدعين على غرار تولستوي ودوستويفسكي، لكن أعماله ستبقى خالدة كأعمالهم، أو أكثر من أي كاتب آخر معاصر، بوصفه الشاهد الأكبر على الشطط الآيديولوجي وفظائع الاستبداد في القرن العشرين، وعلى المظالم والجرائم الجماعية التي راح ضحيتها ما يزيد عن ثلاثين مليون روسي تعرّضوا لأبشع أشكال المهانة والعذاب النفسي والجسدي التي مهّدت ورافقت تلك الإبادة البشرية على يد الطاغية ستالين والنظام الذي جعل منه أوحش الطغاة على مر التاريخ.

«أرخبيل غولاغ» هي أكثر من تحفة أدبية: إنها الدليل على أن كرامة الإنسان يمكن أن تتحدّى أبشع أنواع البربرية والتوحّش الأعمى، وتدافع عن نفسها، وتحتج وتقاوم وتشهد، وأن ثمة إمكانية دائماً للوقوف بوجه الشر، وأن شعلة النبل والنقاء الأخلاقي قادرة، إذا استمرت في المقاومة، على قهر التعصب وجنون الاستبداد.

ليس كتاباً تسهل قراءته، لما فيه من كثافة وتكرار، ولأنه منذ الصفحات الأولى يثير عند القارئ شعوراً بالضيق والاختناق بسبب من قسوة المشاهد التي تصوّر فظاعة الجرائم السياسية وأعمال التعذيب، والوشاية التي تساوي بين الجلادين والضحايا، ويتحول معها الخوف إلى الهواء الذي ينشقه الناس وينامون عليه ومعه يستيقظون. كل ذلك يأتينا عن طريق الأدب الذي ليس أدباً، بل حياة يعيشها الناس ويكابدونها عاماً غبّ العام من غير أمل في أن يحدث شيء، أو يأتي أحدٌ يضع حداً لذلك الاحتضار.

من أين استمدّ هذا الرجل العادي القوة لمقاومة تلك الفظائع؟ وكيف تمكّن، بعد خروجه من الجحيم، أن يعود إليه ويكرّس ما تبقّى له من حياة لإعادة تركيبه وتوثيقه وسرده بأدق التفاصيل ليعرف العالم كله بشاعة ذلك الرعب.

كان في سولجنيتسين شيء من خامة أبطال العهد القديم الذين انتهى به الأمر إلى التشبه بهم جسدياً، وكان على قناعة صوّانية مكنته من مقاومة العذاب، وعلى وله بالحقيقة والحرية حصّنه ضد جميع أشكال التنازل أو الابتزاز. كانت نزاهته تخيفنا من حيث كونها كاشفة لضعفنا، وعندما أجبر على مغادرة بلده الحبيب، الذي كان مولعاً به بعناد الأطفال وبراءتهم برغم كل ما عاناه، اعتقد أنه سيجد في العالم الغربي ما كان يحلم به ويتوق إليه عندما كان منفياً في غولاغ سيبيريا، أي ذلك المجتمع الذي يتمتع أبناؤه بالحرية قدر تمتعهم بالمسؤولية، وتسود فيه الروح على المادة، وتدجّن فيه الثقافة غرائز البشر الذين يؤنسنهم الدين وينفث فيهم مشاعر التضامن والسلوك الحسن.

ولأن تلك الرؤية عن الغرب كانت ساذجة، صدمه المشهد الذي وقع عليه وأصيب بخيبة لم يشف منها أبداً: أمن أجل ذلك يتمتع أهل الغرب المحظيون بالحرية والديموقراطية؟ لجمع الثروات وتبذيرها على الترهات والفسق والترف؟ لنشر الرياء، والأنانية، والمادية، وضرب عرض الحائط بالأخلاق والروحانيات وتجاهل المخاطر التي تحيق بهذه القيم المدنية والسياسية والأخلاقية التي كانت أساس الرفاه والعدل والقوة في الغرب؟

منذ ذلك الحين أصبح صوته هادراً ضد الانحطاط الأخلاقي والسياسي في المجمعات الغربية، متشبثاً بفكرته الطوباوية بأن روسيا مختلفة، وأنها رغم الشيوعية، وربما بسبب من تلك العقود الثمانية التي سادها القمع السياسي والاجتماعي، يمكن أن يمهد سقوط النظام السوفياتي لشروق شمس النظام الذي يجمع بين القومية والديموقراطية، وبين الحياة الروحانية والتطور المادي، وبين التقاليد والحداثة، وبين الثقافة والإيمان. اللافت أن سولجنيتسين في السنين الأخيرة من حياته رأى في فلاديمير بوتين المنقذ الذي يمكن أن يحقق تلك الرؤية الطوباوية، ودافع عن طاغية روسيا الجديد، وسكت عن قمعه الحريات السياسية.

لكن أخطاءه تلك لا تنتقص شيئاً من مآثره السياسية والفكرية، لأن خروجه من ذلك الجحيم، ليدينه ويسرده في مؤلفات لا نظير لها في التاريخ الحديث، والتي لا بد من العودة إليها دوماً لنتذكر أن الحضارة غلالة رقيقة يمكن أن تسقط بسهولة وتدفع بالدول مجدداً إلى الظـلامية والتوحش، وأن الحرية شعلة ليست سوى شعلة ضعيفة، إذا انطفأت يمكن أن تنفجر بعنف يفوق أبشع الكوابيس التي وصفها لنا الكتاب والرسامون. وقد أظهر لنا «أرخبيل غولاغ» أن العصب السياسي يمكن أن يولّد أبشع الفظائع التي لا يمكن أن تخطر على بال الإنسان.

لم يتح لي أن أتعرّف عليه شخصياً، لكني كنت بقربه في كافنديش، تلك القرية الصغيرة من أعمال ولاية فرمونت في الولايات المتحدة، حيث عاش منفياً منذ عام 1976 إلى عام 1994. يومها قال لي صديقي دانييل روندو الذي كان من قلّة أتيح لها أن تعبر عتبة المنزل الذي كان منكباً فيه على الكتابة: «أنصحك بالذهاب إلى هناك لترى كيف يهتم به جيرانه ويعاملونه». ذهبت، وسألت عنه أول شخص صادفته، وكانت امرأة ترفع الثلج عن الطريق المؤدية إلى بيتها، وقالت لي: «لا أريد إزعاج السيد سولجنيتسين»، فقلت لها: «أريد فقط أن أرى منزله، أين يقع؟»، لكنها تعمدت تضليلي كما فعل غيرها ثلاثة آخرون من جيرانه.