بأبسط القول يمكننا وصف المسيرة الغريبة العجيبة التي رُفعت فيها صور المقبور قاسم سليماني بأن ذلك يدخل في باب الوعي البائس والمراهقة السياسوية التي لا تورِّث إلا الحمق. هذه المشهدية السياسوية البائسة نسي مدبروها أو لعلهم تعاموا- وهو الاحتمال الأرجح عندي- أن البحرينيين قد سئموا تكرار الصورة ذاتها على مدى السنوات الثلاث الفائتة لعدم صلتها بأي مطلب شعبي وطني أو هم قومي، وأن في ما جرى إساءةً قاسية لمشاعر مواطني هذه الجزيرة الوادعة، وأن رفع صورة أحد أعداء البحرين في عقر ديارنا البحرينية إهانة صريحة لمفاهيم السيادة والكرامة، وطعنةً في الظهر لعروبة تُعد مكونًا أصيلاً من مكونات الهوية الوطنية البحرينية، وتشويهًا متعمدًا لتاريخ الحركة الوطنية، وتباهيًا صريحًا بولاء لمعممي إيران الذين لا يدخرون وسيلة ولا مسعى إلا ويطرقونه ليوظفوا ما يمن شأن يُلحقُ الضرر بأمة العرب.

هذا ملخص لما تركته في نفسي مشاهدة «فيديو» على «الواتسآب» لمسيرة صغيرة رفع أصحابها صورة لقاسم سليماني طافت زقاقًا صغيرًا في إحدى قرى البحرين، وقد عبَّرت الصورة التي تم تناقلها على نطاق ضيق ومحدود، بكل صدقية، عن انهيار قيمي وأخلاقي في مجتمع عربي صميم يزهو بمكوناته المتحابة ويفخر بتنوع ثقافته ويعتز بمختلف مكونات هويته العربية الأصيلة.

أمر غريب فعلاً ويدعو إلى العجب! أن تُرفع في البحرين صور المقبور قاسم سليماني التي يضرم فيها الإيرانيون أنفسهم النيران فيها تعبيرًا عن كراهية ونبذ للأعمال الحقيرة التي أتى بها في حياته منفذا لأجندة مرشده خامنئي ومورطًا لأبنائهم في حروب عبثية لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ما يعني أن الإيرانيين تحركهم عاطفة الكراهية لسليماني وللنظام الإيراني برمته، وأن تجد هذه الصور لها في البحرين للأسف الشديد من يرفعها ليصل بصاحبها إلى عتبة القداسة، داعيًا إلى إحياء ذكرى من قتّل العرب وهجّرهم في العراق وسوريا واليمن، وهذا بالضبط ما تفعله بهمجية وغباء جماعة في البحرين تسمي نفسها «الوفاء».

لا شك أن المشهد مستفز لأبعد الحدود وقد ترددت كثيرًا في الكتابة عن تلك الجماعة الصغيرة في العدد وفي القيمة الوطنية، تلك الجماعة المستمرة في غيّها وفي عدائيتها للدولة والنظام، والتي ظهرت متفاخرة بإحياء ذكرى مقتل قاسم سليمان رافعة بكل وقاحة صورته، لولا طغيان فرح ما آلت إليه جماهيريتهم وتدني أعداد مريديهم، فقاسم سليمان يعد واحدًا من أكثر الناس الذين مارسوا القتل العلني للعرب، ومن أكثر المتآمرين الذين خططوا لهدم أنظمة عربية قائمة ولاستباحتها بحثًا عن إيجاد مكان ومكانة لنظام الملالي في الأراضي العربية، ولا ينبغي أن ننسى أنه كلما أتيح له ولخلايا العفن الطائفية المذهبية الأخرى التي أسهم في تقويتها في بلدانها لإعلان فرصة للخروج عن أنظمتها السياسية كما هو الحال في لبنان واليمن والعراق، فإنه يجند كل ما لديه من مال ونفوذ وسطوة حتى تُفعّل كل مشروعاته التدميرية في وقت قياسي.

حقًا إنه لمشهد مثير للشفقة ويجبر الفرد على أن يبدي موقفًا قد يراه بعضهم تعبيرًا صريحًا عن معاداة الديمقراطية. ولكن، من جهة أخرى، علينا أن نتساءل أي ديمقراطية هذه، تلك التي تتيح للفرد أن يرفع صور شخص يعتبر منشئًا لمؤسسة تخصصت في قتل العرب، وعمل من خلالها بكل ما أوتي من قوة وجهد على غرس الطائفية المذهبية في عموم البلدان العربية التي ارتأت إيران إمكانية التأثير فيها وقدرتها على تغيير مسار الأحداث فيها بما يخدم المصلحة الإيرانية؟! هكذا فعلت إيران في كل من اليمن الذي قوِضت السلطة فيه لتصبح بقدرة الذراع الحوثي سلطة مفتتة تهيمن هي على جزء منها فوضت الحوثيين لإدارته من خلال احتلال العاصمة اليمنية صنعاء، وتحرك فيه أذنابها كالدمى لتختلق مشاكل إقليمية يكفينا شاهدًا عليها ما هو حاصل الآن في مسألة الإرهاب الصاروخي في باب المندب والبحر الأحمر، وهكذا فعلت في العراق الذي لم يبقَ منه إلا شواهد التاريخ المنبئة بأنه بلد أمضى سنوات طوال يواجه الصلف الإيراني ويُبيد طموحاته الإمبراطورية.

السؤال الذي يمكن طرحه حيال معضلة العناد السياسي وعدم تغيير الاتجاه فيما يتعلق بالخط السياسي المتشدد الذي تعتمده تيارات الإسلام السياسي في الخارج لا لسبب إلا لأن إيران تريد ذلك، هو: متى ستنقشع الغمامة عن أعينكم يا من تعاندون الواقع، لتروا بأن الشارع البحريني الذي عولتم عليه كثيرًا قد هجركم، وبات مهتمًا بقضاياه الوطنية وتطوير مستوى معيشته وفق الأطر القانونية المسموحة؟ هذا السؤال يفرض نفسه على كل من تابع «الفيديو» ليرى تراجع أعداد المواطنين الذين بمقدور الإسلام السياسي ممارسة التأثير عليهم، وليرى أيضًا، كيف أن المواطنين قد انصرفوا للعمل من أجل الوطن الحاضن للكل.