وزع "القائد الأعلى للثورة الإسلاميّة" السيّد علي الخامنئي، أمس، كلمة ألقاها خلال استقباله "أعضاء المؤتمر الوطني لتخليد ذكرى شهداء طهران". وتمحورت هذه الكلمة حول ثلاث نقاط رئيسة تتدرّج من كلاسيكية إلى مثيرة للغاية.

النقطة الكلاسيكية تتمحور حول اعتباره أنّ تصدير الثورة الإسلامية تمّ بصورة تلقائية "فنحن لم نعطِ الأوامر لأحد بل هذا هو تأثير الثورة الاسلامية، فهي كهواء الربيع والهواء الطيب ولا يمكن منع انبعاثه ليعم باقي المناطق، وليس ضروريًا أن يقوم أحد بتصديره بل إنه يصدَّر بصورة طبيعية".

النقطة المهمة، تتمثل في تنديد الخامنئي بسلوك المسؤولين في "الدول الإسلاميّة" الذين "يطالبون بما ليس بيدهم، أي وقف إطلاق النار، ولا يقررون ما هو بيدهم، أي قطع الشرايين الحيوية للكيان الصهيوني بقطع علاقاتهم السياسية والاقتصادية به".

أمّا النقطة الأكثر إثارة، فوردت في قوله إن "الرحمة الإلهية شملت الشعب الإيراني حينما وقعت الثورة، ولولاها لكانت أوضاع إيران أشد ترديًا من أوضاع كل الدول التي تعاني من التبعية، فالثورة الإسلامية حالت دون السقوط المطلق وأنقذت البلاد".

لا داعي للاستفاضة في مناقشة النقطة الأولى، فالخامنئي يتجاهل أنّ "الحرس الثوري الإيراني" ومن أجل تصدير الثورة إلى عدد من دول المنطقة أنشأ "فيلق القدس" وزوّده بصلاحيات واسعة وموازنات ضخمة لتأسيس ميليشيات موالية تكون بمثابة الأذرع له، وتمويلها وتسليحها وتدريبها ورعايتها.

ويدرك الجميع الأدبيات التي تعتمدها هذه الأذرع عند حديثها الموالي بالمطلق ليس لـ"الجمهوريّة الإسلامية في إيران" فحسب، بل لقائدها الأعلى أيضًا.

ولا ينسى المتابعون ما قاله الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله عن مصادر ماله وأكله وشربه وملبسه وسلاحه، ولا عمّا نشرته منظمة "بدر" العراقية عن طاعتها الكاملة لإيران من أجل الدفاع عنها، كما لم تحترق بعد الكتب التي روت كيف جرى تأسيس ما يسمّى بتنظيمات "جبهة المقاومة" على يد قيادات في "الحرس الثوري الإيراني".

وهذا يعني أنّ تصدير الثورة تمّ بجهد وكلفة ورعاية ضخمة جدًا، ولم يكن يومًا، كما قال الخامنئي، عملية تلقائيّة، مثل "هواء الربيع والهواء الطيب بحيث لا يمكن منع انبعاثه ومنع فوحان عطر الربيع والأزهار".

أمّا النقطة المهمة، فتمثّلت في أنّ مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران لا يتوقف عن التحريض على الدول العربيّة والإسلامية المعتدلة، مستغلًّا أيّ ظرف يخطف الأنظار، فيما بلاده تبذل كل جهد ممكن من أجل تبرئة نفسها من أيّ عمل تقوم به التنظيمات التابعة لها، سواء في فلسطين أم في لبنان أم في اليمن أم في سوريا أم في العراق، خصوصًا متى بدا أنّ ثمة أثمانًا باهظة لا بد من أن تدفعه إيران، إذا تمّ ربطها بها.

ومنذ "طوفان الأقصى" تجهد إيران لتنأى بنفسها عن الاضطلاع بأيّ دور، بما في ذلك "المعرفة والاطلاع"، في الهجوم على غلاف غزة في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وفتح "حزب الله" جبهة جنوب لبنان، وإقدام "الحوثيين" في اليمن على تهديد حرية الملاحة في البحر الأحمر، واستهداف الميليشيات الموالية لها في العراق القواعد الأميركية في سوريا والعراق والحدود الأردنيّة.

وإذا صحّت "مرافعات البراءة" التي تتلوها إيران كل يوم، فماذا تكون، والحالة هذه، قد فعلت للوقوف في وجه "الشيطانَين الأكبر والأصغر"، حتى تحتل دور القاضي الذي يطلق الأحكام على هذا المسؤول أو ذاك في العالمين العربي والإسلامي؟ ولماذا من الحكمة أن تخشى هي على مصالحها الإستراتيجية، من خلال النفي، في حين أنّها تندد بمن يحرص مثلها على الالتزام بالحيطة والحذر، وتندفع إلى مباركة زجّ التنظيمات الملحقة بها لأكثر من شعب، كما هي عليه حال اللبنانيين والسوريين واليمنيين والعراقيين والفلسطينيين، في حروب مدمّرة، الأمر الذي دفع رئيس وكالة الاستخبارات الأميركية "سي آي إيه" وليام بيرنز إلى الإعراب عن اعتقاده، في مقالة مطوّلة نشرها، قبل يومين، إلى القول: "يبدو أنّ طهران مستعدة للقتال حتى آخر وكيل إقليمي لها".

ونصل إلى النقطة الأكثر أهميّة، وهي التي تتمحور حول "أنّ الرحمة الإلهية شملت الشعب الإيراني حينما وقعت الثورة ولولاها لكانت أوضاع إيران أشد ترديًا من أوضاع كل الدول التي تعاني من التبعية، فالثورة الإسلامية حالت دون السقوط المطلق وأنقذت البلاد".

هذا الموقف صدم جميع المطلعين على حقيقة الوضع الاقتصادي والمالي والحياتي في إيران، حيث يتنافس التدهور مع التدهور، وحيث تهاجر الأيدي العاملة المحترفة، وتنزف الطاقات، ويتم تصوير طهران، حتى في التقارير الموالية للنظام الإيراني، بأنّها "عاصمة الكآبة" في العالم.

وفي اليوم نفسه الذي وزع فيه الخامنئي كلمته كان الدولار الأميركي يسجل في أسواق إيران السوداء رقمًا قياسيًّا جديدًا في مقابل التومان، واستمرّت "البطون الخاوية" في رفع أنينها، وتاليًا، مع أيّ دول يقارن الخامنئي إيران، حتى يحمد الله على إنقاذ الثورة لها من ملاقاة أوضاع "كل الدول التي تعاني من التبعيّة"؟

بطبيعة الحال، لا يمكنه أن يقصد دول مجلس التعاون الخليجي، أو أيّ دولة متحررة من "الإسلام السياسي"، ولا سيّما من الارتهان لتنظيمات موالية لإيران، إذ إنّ "الجمهوريّة الإسلاميّة" تستطيع، إلى حد ما، أن ترى نفسها في وضعية أفضل من لبنان الذي انهار، والعراق الذي يمنع إنقاذه، وسوريا التي يحظر تحريرها من نظامها، واليمن الذي تهيمن عليه الميليشيات.

وإذا جرت مقارنة أحوال إيران والدول الملحقة بالمحور الذي تقوده بالدول التي "تعاني من التبعيّة" يظهر، بوضوح، أنّ النعمة الحقيقية تكمن في ما يسمّيه الخامنئي بالتبعية فيما اللعنة تقع على تلك التي يقول إن "الرحمة الإلهيّة" أغدقت عليها بالثورة الإسلامية!

وفي مقالتها الافتتاحية تطرقت صحيفة "جمهوري إسلامي"، على سبل المثال لا الحصر، في عددها الصادر أمس إلى تراجع مكانة الدين لدى الإيرانيين بسبب سياسات النظام وتحميله أيديولوجيته الدينية بأساليب قهرية على الشارع المستاء من الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للنظام.

وكتبت الصحيفة تعليقًا على الموضوع: "الشعب الإيراني انتفض ضد نظام الشاه السابق من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية، والحريات المشروعة والقضاء على الاستبداد ونيل الرفاه، ولكن بعد مرور قرابة نصف قرن من حكم نظام الجمهورية الإسلامية لا يمكننا أن ندعي أننا قد نجحنا في تحقيق هذه الأهداف".

ومهما كانت عليه الحال، لا يستطيع أحد أن يعرف إذا كان المرشد الإيراني، في ضوء هذه الكلمة، بات يعيش في "عالم مواز" أو أنّه بهاجس تبرير "الصبر الإستراتيجي" يتقصد أن يُغطي السماوات بالقبوات!