الالتزامات وجدّيتها أهم من النصوص وبنودها. يقال عادة «الشيطان في التفاصيل».. والتفاصيل ضرورية لمعرفة حدود الصفقة المقترحة لهدنة طويلة الأمد في قطاع غزة وتبادل الأسرى والرهائن.

التعقيدات ماثلة في المشهد بصورة تدعو إلى التساؤل عن قدرة أية صفقة مفترضة على الصمود، وأن تضمن بنفس الوقت الحقوق الفلسطينية غير القابلة للتنازل.

السيناريوهات كلها ملغمة بالحسابات المتضادة والاعتبارات المتغيرة. هناك فارق جوهري بين أن تكون الصفقة موقوتة بإجراءات محددة ومدى زمني لا تتجاوزه تعود بعدها العمليات العسكرية إلى كامل عنفها ووحشيتها، وبين أن تكون وقفاً مستداماً لإطلاق النار تعقبه عملية سياسية متوافق عليها.

الأوصاف العامة لا تساعد على بناء تصور متماسك لما قد يحدث تالياً، كأن يقول البيت الأبيض إن مقترح الصفقة «قوي وبناء»، لكنها تكشف النوايا والتوجهات والضغوطات المحتملة.

تكاد تجزم الأجواء والتصريحات المتناثرة أن صفقة ما قد تحدث بأية لحظة. صلب ما هو مطروح خطة على مراحل لتبادل الرهائن والأسرى وإدخال مساعدات إنسانية واسعة النطاق إلى القطاع المحاصر، الذي يتعرض لواحدة من أبشع حروب الإبادة في التاريخ الإنساني الحديث.

بصيغة أخرى فإنها هدنة طويلة الأمد غير محددة وغير موثوقة تستهدف وقفاً لإطلاق النار، لكنها لا تنص عليه.

ضرورات الصفقة تضغط على اللاعبين الدوليين والإقليميين فيما يشبه الإجماع، فيما تبدو إسرائيل منقسمة بفداحة بين يمين متطرف يناهض وقف إطلاق النار ومعارضة متصاعدة تطلب إزاحة بنيامين نتنياهو من رئاسة الحكومة، لكنها لا تتردد في أن تمنحه شبكة أمان في الكنيست إذا ما أقدم على الصفقة حتى لا يكون قراره معلقاً بإرادة اليمين المتطرف وحده.

قد تُعلن الصفقة في صيغتها الأخيرة الآن، أو تُؤجل لبعض الوقت لدواعي سد الفجوات الواسعة بين الطرفين المتحاربين، لكنها آتية دون شك بقوة الحقائق الماثلة.

أهم تلك الحقائق أن البيئة الدولية العامة لم تعد تحتمل، ولا إسرائيل نفسها تتحمل، الاستمرار في حرب الإبادة على غزة.

كانت قرارات محكمة العدل الدولية تلخيصاً للغضب الإنساني الواسع على جرائم الإبادة في غزة، الذي عبّر عن نفسه باتساع نطاق التظاهرات والاحتجاجات في عواصم ومدن الغرب الكبرى.

الصفقة المقترحة، أياً كانت حدودها وطبيعتها، تخفف من الأضرار الفادحة، التي كادت تقوض صورة إسرائيل أمام العالم.

فوق ذلك كله، فإن الفشل الإسرائيلي في تحقيق علامة نصر واحدة رغم مرور أربعة أشهر من الحرب الضارية استدعى استخلاصاً عامّاً آخر أنه لا يمكن كسبها، وأن ادعاء إسرائيل بقدرتها على تقويض «حماس» واستعادة الأسرى والرهائن من دون تفاوض، محض أوهام.

بدا نتنياهو أسيراً بالكامل لليمين المتطرف خشية أن تتقوض حكومته، التي تعتمد عليه في بقائها.

في ذروة الاتصالات والاجتماعات المنهكة والمطولة للتوصل إلى صفقة ما، عُقد مؤتمر حاشد في القدس برئاسة وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير عنوانه: «العودة إلى غزة».

إنها دعوة صريحة بحضور 12 وزيراً إسرائيلياً للتوسع الاستيطاني في القطاع المحاصر والمقاتل معاً.

الوزراء أنفسهم يتبنّون مشروع التهجير القسري من غزة إلى سيناء ومن الضفة الغربية إلى الأردن بلا أدنى استعداد للنظر في العواقب الوخيمة.

كان تصعيد المواجهات والاعتقالات والاغتيالات في الضفة الغربية، كما لم يحدث من قبل، تعبيراً عن ذلك التوجّه من دون اكتراث بالتحفظات والاعتراضات الغربية.

في إشارة لافتة قررت واشنطن اتخاذ إجراءات غير مسبوقة بحق أربعة من قيادات المستوطنين. كانت تلك رسالة احتجاج مخففة رد عليها بن غفير بوصف قادة المستوطنين ب«الأبطال»!

في مثل هذه الأجواء المتلاطمة لخص نتنياهو مواقفه بعبارة ملتبسة: «نسعى لاتفاق ما، لكن ليس بأي ثمن».

المعنى المبطن أنه يوافق ويعارض في نفس اللحظة الصفقة المقترحة، خشية أن يفلت الزمام من بين يديه.

يدرك أنه لا يقدر على تمديد الحرب من دون غطاء أمريكي، ولا يستطيع وقفها من دون موافقة حلفائه في الحكومة، وإلا فإن سقوطه مؤكد.

بذات الوقت لن يتوقف الرئيس الأمريكي جو بايدن عن الضغط عليه بصورة مباشرة وغير مباشرة، فمصير حملته لتجديد رئاسته لفترة ثانية تكاد تتوقف على إنجاز تلك الصفقة بلا إبطاء حتى يكون أمامه وقت كافٍ لإقناع أنصاره الغاضبين في الحزب الديمقراطي من عرب ومسلمين وسود ويساريين أنه صانع سلام لا شريك في الإبادة الجماعية.

هاجس بايدن المقيم هو توسيع نطاق الحرب، مدركاً عواقبها الوخيمة على المصالح الأمريكية وعلى مستقبله السياسي، لكنه يجد نفسه بارتباك مفرط منخرطاً في اشتباكات منذرة بالبحر الأحمر ومدعواً لعمليات انتقامية واسعة، رداً على ما تعرضت له قاعدة أمريكية في الأردن من استهداف أوقع قتلى ومصابين.

إنه مستوى غير مسبوق في الارتباك الاستراتيجي الأمريكي، أو الوجه الحقيقي لأزمة «اليوم التالي»!

التصورات كلها هشة والتداعيات خارج السيطرة. هذه حقيقة لا يمكن إنكارها.