عجّت المكاتب الحكومية وغير الحكومية في العديد من دول العالم بأعدادٍ هائلة ومتنامية من المستشارين ذوي الخلفيات المختلفة والتخصصات المتنوعة بغرض دعم عملية صنع السياسات والاستراتيجيات، وتقديم النصح والاستشارة إلى متخذي القرار. والواقع أنّ أدوار المستشارين، إيجاباً أو سلباً، أصبحت رواية أو بالأحرى روايات تُروى.

ولعل أرشد هذه الروايات وأصدقها مع النفس، وأكثرها أمانة مع الشعب، وأوضحها تعبيراً عن اقترابه «الثوري» من العمل الحكومي، هو ما يؤثر عن الشيخ محمد بن راشد، في مقابلة له على هامش إحدى مشاركاته في مؤتمر دافوس الاقتصادي الدولي. ففي هذه المقابلة، قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله «أنا ما يعجبني الإنسان اللي يوافقك على كل شيء. اللي دايماً يجاملك ما يحترمك. أمّا الإنسان اللي يجيك وينصحك ويقولك هذا خطأ، هذا من محبته لك».

وفي المقابلة نفسها، لخص سموه تصوره في هذا الخصوص بقوله: «لأجل هذا ترى عندنا نقاشاً كل يوم، نتناقش ونشوف الآراء»، و«إذا جاءني إنسان وعاتب عليّ، وينتقد فيّ موضوعاً، أنا أحترمه لأن هذا من حرصه عليّ، وعلى بلده، وهذا شيء صحي»، ف«الانتقاد شيء صحي بالنسبة لنا نحن». ويعلل ذلك بالتنويه بأن «الإنسان يخطئ». ويضيف، بتواضع جم «أنا تعلّمت أنّ الضابط الكبير والقائد يأخذ الفكرة من جندي بسيط. يعني إذا سألت الجنود: ما رأيكم في هذه الفكرة؟ قد تسمع من جندي بسيط يقول لك لا يا سيدي، هذه الفكرة أحسن. وبالفعل القائد يأخذ بالآراء إذا كانت صحيحة».

ومن النظرية إلى الممارسة، يوضح بو راشد، ناسباً الفضل في ترسيخ هذه الممارسة في الحكم الرشيد إلى أهله، أنه «كل يوم، نحن والشيخ زايد والشيخ مكتوم، رحمهما الله، الكلام بيننا دائماً. الشيخ زايد دائماً يسألنا (شو رأيكم بكذا...) شو رأيكم بكذا... وكنا نتبادل الآراء بكل حرية وبدون تعقيد».

هذه رواية بو راشد عن أهل الاستشارة. ولكن هناك روايات أخرى تمتلئ بها مجالس الحكم، ودواوين الحكومات، لعل أشهرها رواية أسرة الزاهدي مع عائلة بهلوي في إيران الإمبراطورية. فالجنرال فضل الله زاهدي، الذي كان من المقربين من رضا شاه (ديسمبر 1925 – سبتمبر 1941) ومستشاراً أميناً له، ثم لابنه ووريثه محمد رضا شاه، (سبتمبر 1941– فبراير 1979). وبعد وفاة الجنرال زاهدي عام 1963، عمل نجله أردشير، ضمن أعمال أخرى، مستشاراً لآخر شاه إيراني، ومن أقرب المقربين إليه، حتى سقوط الشاهنشاهية بفعل الثورة الإيرانية في فبراير/ شباط 1979. ومن دون الدخول في تفاصيل الرواية الزاهدية في طبيعة عمل المستشارين، أقول: إن المشهد الأخير فيها يعبّر بجلاء عن خلاصتها. فيروى أن السفير أردشير زاهدي استأذن للدخول على الشاه في آخر عهده بالحكم مخلوعاً منه، وأول عهده بالمنفى داخلاً فيه، فدلّوه على غرفة مظلمة من القصر الكبير، الذي كان عامراً، يقبع فيها الشاه وحيداً. وقد همّ، أردشير أن يغادر الغرفة لأنه لم يبصر شاهاً، ولا إنساناً فيها، وإذ به يسمع صوتاً من داخلها يسأله: «ما الذي حصل خطأ؟»، فأجاب المستشار المكلوم: «كان والدك يعاقب من يؤمِّن دائماً على كلامه من مستشاريه، ومَن يمدحه منهم. أما أنت فتعاقب من يصدقك النصيحة التي تخالف رأيك».

وأظن أنّ هاتين الروايتين عن الاستشارة والمستشارين من الأهمية بمكان أنْ تكونا في أذهان من يسعون إلى تشكيل حكومات المستقبل في القمة العالمية للحكومات التي تلتئم في دبي الأسبوع المقبل.

ولأمرٍ ما، أطلق المفكرون الإسلاميون على فن تقديم النصح إلى السلطان مصطلح «الحكمة السياسية». وكان بلاط الخلفاء والسلاطين والأمراء يحفل بأصحاب الحكمة ممن أثروا الفكر السياسي بأطروحاتهم عن «الأحكام السلطانية»، و«سلوك المالك في تدبير الممالك» و«سر العالمين». ولكن وظيفة «الحكماء» في كثير من المؤسسات في العديد من البلدان أصبحت أقرب لرواية الزاهدي منها إلى رواية بو راشد. فـ«المستشارون» في كثير من المؤسسات في العالم أصبح يُطلق عليهم «مدققو الحسّاسيات»؛ بمعنى أنّ وظيفتهم للأسف باتت تقتصر فقط على تقييم الاستشارات وأوراق السياسات والتقارير المقدمة إلى صانعي القرار، وتنقيتها مما يثير أي «حساسية سياسية أو أمنية متصورة» في مخيلة هؤلاء المستشارين.