قمة عدم الانحياز التي عُقدت منتصف الشهر الماضي في كمبالا عاصمة أوغندا أتت في لحظة تاريخية صعبة. الأمين العام للأمم المتحدة فنّد المصاعب التي تواجه العالم والحركة ومبادئ باندونغ التي قامت عليها والتي تماهت مع مبادئ ومقاصد الأمم المتحدة التي واكبت ومثّلت طموحات دول الحركة في التحرر من الاستعمار.

فهذه القمة، كما ذكر الأمين العام أنطونيو غوتيريش، أتت في لحظة من الانقسام الدولي العنيف والتوتر الجيوسياسي الكبير. فكلٌّ من ميثاق الأمم المتحدة ومبادئ باندونغ يجري التعدي عليها؛ من خرق حقوق الإنسان إلى التعدي على سيادات الدول وعلى القانون الدولي والإنساني ومواثيق جنيف، كأن التقدم الذي أحرزته البشرية خلال معظم القرن الماضي يتعرض لحملة تهشيم وتدمير منظّمة. هذا إضافةً إلى انتشار الحروب والنزاعات والاصطفافات والانحياز إلى هذا المعسكر أو ذاك، والضغط من الدول الكبرى على دول الحركة لاتخاذ موقف مع طرف ضد الآخر في النزاعات القائمة في تحدٍّ واضح لحركة عدم الانحياز وما مثَّلته يوماً من الأيام. فعندما بدأت حرب أوكرانيا كان الضغط هائلاً على دول الحركة في الجمعية العامة للأمم المتحدة لاتخاذ موقف مؤيد لهذا الطرف أو ذاك، مما جعل أعضاء الجمعية يترحمون على العصر الذهبي لعدم الانحياز، وبدأ الحديث عن إحياء هذا التوجه وسيلةً للبقاء على الحياد ولمواجهة الضغط الهائل الذي يتعرضون له كلما صوتت الجمعية على قرار جديد حول أوكرانيا.

وفي خضمّ عدم الاستقرار العالمي، رأى الأمين العام للأمم المتحدة «فرصاً جديدة لدول حركة عدم الانحياز لكي تقود»، خلال كلمته في قمة أوغندا. ونشرت الصحف ومن بينها «الشرق الأوسط» أن الجزائر التي كانت قد بدأت دورها عضواً غير دائم في مجلس الأمن، أطلقت حملة لإحياء مجموعة عدم الانحياز في مجلس الأمن.

إن إحياء دور الحركة، خصوصاً في مجلس الأمن هدف سامٍ في الوقت الذي يعاني فيه المجلس الشلل في مواجهة أكبر أزمتين وحربين خلال القرن الحادي والعشرين؛ حرب أوكرانيا وحرب إسرائيل على غزة و«حماس». فالعالم يتطلع إلى الأمم المتحدة لوقف المأساة الإنسانية في غزة ولإحلال السلام والأمن الدوليين اللذين في صلب مسؤولية المجلس. إن وجود كتلة ذات نفوذ في مجلس الأمن تستطيع الضغط في هذا الاتجاه، طموح مطلوب خصوصاً إذا تذكّرنا الدور الفعال الذي كانت تلعبه حركة عدم الانحياز في مجلس الأمن خلال عهد قوتها إبان الحرب الباردة ووجود القطبين الدوليين اللذين أدارا العالم: الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.

لم أعاصر هذه المرحلة في تاريخ حركة عدم الانحياز في الأمم المتحدة ولكنّ السفراء قديمي العهد في المنظمة الدولية كانوا يذكروننا كلما دخلنا إلى غرفة الاستراحة إلى جانب قاعة مجلس الأمن، ويشيرون إلى باب على يمين الغرفة ويقولون: «هذه كانت غرفة اجتماعات مجموعة حركة عدم الانحياز. إن أعضاء مجلس الأمن الخمسة الكبار كانوا يجلسون ينتظرون في المجلس مع الأعضاء الآخرين لكي يصدر قرار الحركة حول أي مسألة قبل أن يستطيع المجلس أن يصوّت على أي قرار. لقد كانت دول الحركة هي التي تقرر وتجبر الدول الكبرى على اتخاذ القرارات»، حسب أحد السفراء.

هذه الغرفة اليوم يستخدمها أعضاء مجلس الأمن لاجتماعات جانبية، وأصبحت مجرد ذكرى للحركة. فهل يمكن أن يعود نفوذ الحركة إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن؟ جميع الدبلوماسيين الذين سألتهم رأيهم يشككون في أن تستعيد الحركة نفوذها السابق وإنْ كان التنسيق بين أعضاء الحركة داخل مجلس الأمن ممكن أن يفعَّل وينشط ويؤدي إلى نتائج إيجابية، خصوصاً إذا عملت موزمبيق وغويانا والجزائر وسيراليون، الأعضاء غير الدائمين في المجلس، ككتلة عدم الانحياز داخل المجلس. ولكن من الصعب أن يُنهي ذلك الشلل في المجلس الذي يولّده خلاف القوى الكبرى. فلكي تستعيد الحركة نفوذها يجب أن نعيد الظروف السياسية والدولية التي أعطت الحركة قوتها وزخمها والتي لم تعد موجودة اليوم أو أنها ضعفت.

أولاً، انتهى نفوذ الحركة مع نهاية الحرب الباردة والثنائية الدولية التي كانت موجودة. فالنظام الدولي الحالي مختلف تماماً عن النظام الذي كان قائماً أيام الحرب الباردة والذي أدى إلى قيام توجه لعدم الانحياز. اليوم العالم منقسم بل مشظَّى والحركة منقسمة أيضاً على نفسها ولا تتخذ مواقف موحدة في كثير من القضايا الدولية. ويُنقل مثلاً، عن رئيس سيريلانكا السابق ج. آر. جايوردين الذي كان مشككاً بفاعلية الحركة عام 1978 قوله في مقابلة أن «هناك دولتين فقط غير منحازتين في العالم: أميركا والاتحاد السوفياتي». الصورة اليوم أكثر انقساماً وأكثر انحيازاً مع تغير اسم إحدى الدولتين.

ثانياً، الدول التي قادت حركة عدم الانحياز تغيرت أيضاً، وهناك خلافات ونزاعات بين بعضها تؤدي أحياناً إلى صعوبة اتخاذ الحركة أيَّ مواقف موحَّدة مثل الخلاف بين الهند وباكستان، ومصر وإثيوبيا، وأذربيجان وأرمينيا (مع أن أرمينيا هي عضو مراقب)، وغيرها. كما أن العلاقات التي كانت قائمة بين قادة الحركة في الخمسينات لا تقارن باليوم إذ إن جواهر لال نهرو، وجمال عبد الناصر، وجوزيف تيتو، وسوكارنو الإندونيسي، وكوامي ناكروما الغاني، كانوا يتشاركون نظرة واحدة جامعة تجاه دول الشمال وإنهاء الاستعمار، غير موجودة اليوم بين قادة هذه الدول. ورأى دبلوماسي عربي أن العرب والأفارقة مع آسيا كانوا يقودون المجموعة ولكن منذ «الربيع العربي» انكسر الإجماع داخل المجموعة وأصبح الأعضاء يتخذون المواقف التي تخدم مصالح دولهم الفردية بعيداً عن الإجماع.

والشيء الآخر الذي تغير هو عدم وجود قضية واحدة تجتمع حولها المجموعة كما اجتمعت حول التحرر من الاستعمار. أحد السفراء الذي حضر قمة عدم الانحياز في أوغندا لاحظ عودة الثقة لدى الدول الأعضاء في المجموعة والانتماء إليها. وقال إن الحركة يمكن أن تحافظ على التركيز على دعم القضية الفلسطينية وهذا يمكن أن يخلق الزخم لتقدم حل الدولتين. وبينما أيَّد هذا الدبلوماسي جهود الجزائر لإحياء نفوذ الحركة وجد صعوبات في وجه ذلك بسبب ما رأينا في أوكرانيا وفلسطين، حسب قوله.

إضافةً إلى ذلك، هنالك مجموعة الـ77 والصين في الأمم المتحدة التي تلعب دوراً أهم وأكثر صدقية من حركة عدم الانحياز الآن خصوصاً في مسائل التنمية والاقتصاد.

دبلوماسيون آخرون يرون عقبات من داخل المجموعة تتعلق بضعفها المؤسساتي وعدم وجود سكرتارية لها مثلاً أو تمويل من الأمم المتحدة كما هو الحال مع مجموعة الـ77 والصين. لذلك فإن نجاح أو فشل أي جهد للحركة يعتمد على الدولة التي ترأسها وما إذا كانت لديها الموارد البشرية والمالية لإنجاحها. فأوغندا اليوم تجهد في إعطاء الحركة دوراً بارزاً خلال رئاستها الحركة، ولكن أوغندا ترأس في الوقت نفسه مجموعة الـ77 والصين، وسيكون من الصعب إدارة المجموعتين من دون موارد كبيرة وطاقم بشري كافٍ للمهمتين.

حركة عدم الانحياز أيضاً بحاجة للإصلاح ولتحديث أسلوب عملها، فالبيان السياسي للمجموعة يقع في 1400 فقرة في 300 صفحة ولا يمكن لأحد أن يغيّر شيئاً فيها لأن القواعد تمنع ذلك. أسلوب عمل المجموعة يسمح لأي دولة بأن تضع في الوثيقة ما تريد فتصبح، حسب قول سفير مخضرم، «مثل شجرة الميلاد كل طرف يعلّق عليها ما يريد».

وأخيراً هناك استخدام المجموعة من بعض الدول التي ترأستها لتقديم مصالحها الخاصة على مصالح المجموعة، مما أدى إلى انقسامات.

عدم الانحياز صعب في عالم منحاز ومختلف تماماً عن ظروف وزمن ولادة حركة عدم الانحياز. إن أفضل وصف لهذه المسألة هو قول أم كلثوم في أغنيتها «فات الميعاد»: «عايزنا نرجع زيّ زمان، قول للزمان ارجع يا زمان».