بين "الإنذار الناعم" Soft ultimatum الذي وجّهه الرئيس الأميركي جو بايدن إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وبين "الدبلوماسية اللطيفة" be nice diplomacy لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن التي يعتمدها مع إسرائيل كما مع إيران، يخشى كثيرون من عواقب وخيمة للأسلوب الأميركي الضعيف أمام الشرسين الإسرائيلي والإيراني، فيما يراهن آخرون على نجاح بايدن وفريقه في استخدام الإنذار النهائي مع إسرائيل، للتوصل الى تفاهمات انتقالية وهدن وقف النار في الطريق إلى تسويات إقليمية مهمّة تشمل إيران وإسرائيل وغيرهما.

الأسبوعان المقبلان سيمتحنان العزم الأميركي وآفاق الصبر الدبلوماسي، وسط المذابح والتهجير القسري والعنجهية الإسرائيلية، كما سيمتحنان إن كانت إدارة بايدن ساذجة أمام سياسة التضليل والتملّص الإيرانية، أو إن كانت تستخدم السذاجة ضمن أدوات المواجهة الليّنة مع طهران.

أخيراً، تحدّث الرئيس بايدن بلغة التحذير لإسرائيل للمرّة الأولى الخميس الماضي، قائلاً إنّ الردّ العسكري الإسرائيلي في غزة تجاوز الحدّ، وكان ردّاً "مفرطاً" على الهجوم الذي شنّته "حماس" ضدّ إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر). وقال: "أضغط بقوة الآن من أجل التوصل الى هدنة مستدامة في غزة"، فيما وجّهت إدارته شبه إنذارٍ لإسرائيل بألاّ تشنّ هجوماً أعلن عنه نتنياهو على رفح، لأنّه سيكون "كارثة" بحسب البيت الأبيض.

الدعوات الأميركية المتكرّرة لإسرائيل بأن "تراعي المدنيين"، وهي تقوم بعملياتها العسكرية الهمجية التي تعتمد التدمير الممنهج سياسةً لها، دعوات لم تصل إلى درجة الإنذار، كما حدث هذا الأسبوع. إنذار ليس مقترناً بعد بإجراءات- فهذا قد يكون في المرحلة الثانية للإنذار، وقد تكون الإجراءات تدريجية. بكلام آخر، لم تتخذ إدارة بايدن قراراً بإجراءات تدخل في ضغوط ملموسة على إسرائيل، مثل وضع قيود على مساعداتها العسكرية السنوية البالغة 3،8 مليارات دولار.

الجديد هو توقّف إدارة بايدن عن تبرير الردّ الإسرائيلي على عمليات 7 تشرين الأول (أكتوبر) كأمر واقع، حتى وإن كانت تدعو إلى "مراعاة المدنيين". فهي لم تكن في صدد التدخّل في السياسة الإسرائيلية التي توعّدت بسحق "حماس"، ولذلك رفضت الالتحاق بالدعوات العالمية إلى وقف النار. في هذه الأثناء، كان فريق بايدن يعمل وراء الكواليس على إتمام عناصر التسوية المستدامة بالتشاور مع دولٍ عربية، بما فيها تسوية الحدود اللبنانية- الإسرائيلية، بالتنسيق غير المباشر مع إيران.

بلينكن كان صبوراً في محطته الإسرائيلية، حيث وجّه نتنياهو اليه صفعة التحدّي بلا دبلوماسية ولا احترام له وللولايات المتحدة الأميركية. عقد نتنياهو مؤتمراً صحافياً أعلن فيه عن توسيع العمليات العسكرية، وأعلن عن إصداره أمر الاستعداد لعملية في رفح، حيث يتواجد مليون ونصف مليون فلسطيني. تحدّى الجهود الرامية الى هُدَن ووقف نار وسكب الماء البارد على تفاهم انتقالي سعى وراءه بلينكن بين إسرائيل و"حماس" حول الرهائن والهدن ووقف النار. أراد نتنياهو إهانة بلينكن ونسف جهوده، فيما كان لا يزال زائراً في إسرائيل. وهكذا فعل. لكن نتنياهو رجل غافل ومتعجرف، مشهور بأنّه يتقن الكذب، ومرضه العنجهية.

ما أوضحه نتنياهو في مؤتمره الصحافي هو أنّه يريد فقط النصر الساحق. يريد الانتصار بعنوان القضاء على "حماس" وتنظيف غزة من أهلها واقتلاع الفلسطينيين من بيوتهم، في سياسة التهجير القسري التي يتبنّاها منذ زمن. فهو لا يريد التسوية ولا الدولة الفلسطينية، مهما كانت عليها من قيود كدولة منزوعة السلاح أو مقلّصة الحدود. فالسلام والتسوية عدوّان لنتنياهو ولفكره السياسي العنصري، ثم أنّهما عربة سقوطه من السلطة ودخوله السجن لربما.

ما تريده "حماس" في هذا المنعطف وما بعد سقوط 28 ألف فلسطيني ضحية للإبادة الإسرائيلية انتقاماً من عمليات 7 تشرين الأول (أكتوبر) التي شنّتها الفصائل الفلسطينية بغتة على إسرائيل، وقتلت فيها مدنيين واختطفت رهائن إسرائيليين ومن جنسيات مختلفة، ما تريده حسبما يبدو هو العودة الى 6 تشرين الأول (أكتوبر). وهذا ما ترفضه إسرائيل قطعاً، كما تقول. لن تسمح إسرائيل باستمرار حكم "حماس" لغزة، لكنها قد تكون جاهزة لتسهيل مغادرة القيادة العليا للحركة من القطاع، كجزء من وقف النار والتسوية.

ما يتردّد حول عناصر الصفقة الثنائية بين "حماس" وإسرائيل، هو أنّ الأخيرة على استعداد للسماح للقيادي في حركة "حماس"، يحي السنوار، بالخروج الى المنفى مقابل إطلاق سراح جميع الرهائن وإغلاق صفحة حكم "حماس" للقطاع. البعض يذكّر بعام 1982 عندما أُجبِرَ المئات من عناصر منظمة التحرير الفلسطينية على مغادرة لبنان، وتبعهم الرئيس ياسر عرفات مغادراً إلى منفاه في تونس لمدة 12 عاماً. وبحسب ما يتردّد، تريد إسرائيل قادة مدنيين يجري اختيارهم بعناية بدل قادة "حماس" في غزة.

الجهود الأميركية - الخليجية تصبّ في خانة توفير الضمانات الأمنية لإسرائيل في اطار موافقتها على "حل الدولتين" وقيام دولة فلسطينية، إلى جانب العمل على خليفة للرئيس الفلسطيني محمود عباس، قادر على القيادة في الضفة الغربية وغزة على السواء. وزارة الخارجية الأميركية، وفي أعقاب مشاورات بين بلينكن ونظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان، أصدرت بياناً ذكرت فيه، أنّ الجانبين بحثا الجهود الرامية لوضع النهاية للأزمة في غزة "تحقق سلاماً وأمناً مستداماً للإسرائيليين والفلسطينيين على حدّ سواء، وتفضي الى إقامة دولة فلسطينية مع توفير ضمانات أمنية لإسرائيل". هذا الى جانب تعهدهما بمواصلة التنسيق الوثيق لزيادة المساعدات الإنسانية للمدنيين في غزة.

السعودية أوضحت الأسبوع الماضي عبر بيان لوزارة خارجيتها، أنّها أبلغت موقفها الثابت للإدارة الأميركية، بأنّه لن تكون هناك علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل ما لم يتمّ الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة، وإيقاف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وانسحاب كل قوات الاحتلال الإسرائيلي منه. جاء ذلك الإيضاح بعدما أشار الناطق بإسم البيت الأبيض جون كيربي الى أنّ إدارة بايدن تلقّت إشارات إيجابية حول استعداد السعودية وإسرائيل للنقاش حول تطبيع العلاقات بينهما. البيان كان مطمئناً، والرئيس الفلسطيني محمود عباس شكر السعودية على موقفها، وإيضاح مواقفها الداعمة للفلسطينيين.

يطيب للبعض القول إنّ الموقف السعودي الصارم ورفض المضي بالتطبيع مع إسرائيل، هو نجاح لعمليات 7 تشرين الأول (أكتوبر)، والتي كان أحد أهدافها نسف مسيرة التطبيع بين السعودية وإسرائيل. واقع الأمر، انّ الموقف السعودي الصارم لم يأتِ تلبيةً وإذعاناً لما أرادته "حماس" في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، وإنما هو نتيجة مباشرة للإجراءات الإسرائيلية الإبادية وللمواقف الإسرائيلية المتعنّة ضدّ قيام الدولة الفلسطينية.

واقع الأمر، أنّ واقعة 7 تشرين الأول (أكتوبر) زادت من توطيد العلاقات بين السعودية والسلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس، ولم تؤدِّ أبداً الى قبول سعودي أو خليجي بحركة المقاومة الإسلامية، ليس فقط بسبب انتمائها إلى حركة "الإخوان المسلمين"، أو تنسيقها عسكرياً مع إيران، أو التباهي بأنّها تمكّنت من القضاء على مسيرة التطبيع التي هي قرار سيادي للدول، وإنما لأنّ الدول الخليجية ومصر والأردن وغيرها من الدول العربية، ترى أنّ مواقف "حماس" مكلفة للشعب الفلسطيني، وأنّها تأتي في إطار الصراع على السلطة، بل انّها توفّر الذريعة للبطش وسياسة التهجير القسري الإسرائيلية. جزء كبير من الفلسطينيين يوافق على هذا التشخيص لمواقف ومغامرات "حماس" "المدروسة".

ولنكن في منتهى الصراحة- انّ الدول العربية الخليجية لن تدخل طرفاً مباشراً في الحرب مع إسرائيل مهما أرادت "حماس" ذلك. إيران أيضاً لن تدخل حرباً مباشرة مع إسرائيل مهما تمنّت "حماس" ذلك. ستبقى الحروب مع إسرائيل حروب ميليشيات ضدّها وليس حروب دول، مهما أحرجت إسرائيل و"حماس" معاً الدول العربية وإيران.

نتنياهو يريد فتح جبهات لجرّ أميركا إلى الحرب بالدرجة الأولى. لا يأبه إن كانت عملية رفح تهدّد السلام مع مصر. إنّه يريد تأجيج الجبهة اللبنانية - الإسرائيلية لأنّها المفتاح الأساسي لتوريط الولايات المتحدة في حرب مع إيران.

لا إدارة بايدن ولا إيران ستلبّي استدراج نتنياهو الى الحرب. ومن هنا تبرز أهمية الجهود الدبلوماسية الأميركية لتحييد لبنان بالدرجة الأولى، وتبرز معها خصوصية التفاهمات الجارية مع إيران، حتى في خضمّ تطاول الأذرع الإيرانية على المصالح والقواعد الأميركية في سوريا والعراق.

إدارة بايدن تأخذ الآن ورقة من كتاب إدارة دونالد ترامب للردّ على استفزازات الأذرع الإيرانية، وذلك باستهداف مباشر للقيادات، على نسق استهداف الرئيس السابق دونالد ترامب لقائد الحرس الثوري قاسم سليماني. القصف الأميركي للحوثيين هدف يدخل في خانة حماية الملاحة في البحر الأحمر، والردّ على عمليات يزعم الحوثيون أنّها لنصر "حماس" في فلسطين. أما استهداف القيادي البارز في "حزب الله العراقي" أبو باقر الساعدي، الذي يعُتبر حركة وصل حيوية بين الحرس الثوري الإيراني وكتائب "حزب الله" وقوات الحشد الشعبي، فإنّه تطوّر في كيفية تناول إدارة بايدن لتحدّيات الأذرع الإيرانية.

إيران تلعب اللعبة ذاتها في التملّص من عمليات أذرعها. فهي على تواصل غير مباشر مع إدارة بايدن التي تتخذ مواقف ليّنة تجاه المسؤولية الإيرانية عن الأذرع التي تستهدف المصالح الأميركية. كلاهما يسير بحذر ودقّة بين الأقوال والأفعال، حرصاً على تجنّب المواجهة بينهما المكلفة لكليهما معاً. فأيّة مواجهة مع إيران ستكلّف بايدن الرئاسة. وأيّة مواجهة مع الولايات المتحدة ستكون مكلفة جداً لإيران.

إدارة بايدن ستضع نتنياهو وحكومته أمام الإنذار النهائي الذي يبدأ بنعومة، لكنه قد يتحوّل إلى إجراءات غير مسبوقة، إذا استمر نتنياهو في التعاطي مع فريق بايدن بذلك القدر من الاستهتار والتحدّي. عندئذ سيُثبَتُ له أنّه غافل وأنّه يتحمّل كامل مسؤولية إتلاف العلاقات الأميركية - الإسرائيلية التقليدية. فأميركا لن تخاطر بحربٍ يورطها فيها نتنياهو، مهما تخيّل له إمكان تحقيق ذلك.

إيران، بحسب قول مقرّب من تفكيرها، تعتبر أنّ وقف النار نتيجة مفاوضات إسرائيلية مع "حماس" أمر جيّد لإيران، لأنّ ذلك ينطوي باعتراف بحركة "حماس"- وهذا يرضيها.

إدارة بايدن مقتنعة أنّ نتنياهو سيجد حلاً وسطاً مع "حماس". التحدّي هو في كيفية تحويل هذا الاقتناع الى واقع ثابت في الرمال المتحرّكة.