اللحظة فارقة، الخرائط تئن، مسارات وتشابكات وتقاطعات، لم نشهد لها مثيلاً في الحربين العالميتين الأولى والثانية، القضية الآن صارت أبعد من الحرب الإسرائيلية على غزة.

ألسنة اللهب باتت تنتقل من بؤرة الصراع على أراضي فلسطين التاريخية، إلى مناطق مختلفة في الإقليم العربي والشرق الأوسط، المعادلات القديمة لم تعد تتفق مع الحسابات الجديدة، سباق نفوذ وإيرادات ومصالح، تتصادم وتتسارع وترتطم في عنف، أعراض الحرب على غزة، تركت بصماتها على جسد الخرائط بالمنطقة والعالم.

يوم السابع من أكتوبر، بات تاريخاً فاصلاً وفارقاً، في تحريك البيادق على رقعة الشطرنج، إسرائيل تبحث عن ذاتها وسط ركام المفاجآت، لم نجد شيئاً في صندوقها، الذي طالما روجت بأنه محكم وقوي وغير قابل للكسر.

تكشفت أسرارها في أول اختبار، أرادت أن تنتقم، تبنت رواية زائفة، بتوقيع حليفتها الولايات المتحدة الأمريكية، لم تصمد هذه الرواية أمام الحقائق على الأرض، وفي الميدان، وتهاوت الصورة النمطية لإسرائيل أمام ماكينات القتل والمجازر الوحشية، في حق المدنيين والأطفال، واستهداف المستشفيات والمؤسسات الدولية، وناقلي الحقيقة من وسائل الإعلام، وارتفع منسوب الدم في بورصة الضمير العالمي.

اختار بنيامين نتنياهو الهروب إلى الأمام، أدرك أن نجاته من السجن والمحاكمة، تتطلب مزيداً من إراقة الدماء، يعرف وحكومته المتطرفة أن اللعبة باتت صفرية، إما أن يواصل الانتقام، وإما أن يكتب شهادة وفاته السياسية، لكنه اختار مزيداً من الانتقام، مما أشعل الغضب لدى الرأي العام العالمي والإقليمي، من دون إغفال، ما يجري في أوروبا، والولايات المتحدة الأمريكية، ففي أوروبا صنعت الحرب على غزة، انقساماً وتشظياً مجتمعياً وسياسياً بين الداعمين لإسرائيل، والمؤيدين للحق الفلسطيني، واتسعت الفجوة بين الرأي العام الأوروبي وحكوماته التي أرسلت منذ اللحظة الأولى، جميع أشكال الدعم لإسرائيل، من دعم دبلوماسي واستخباراتي وسياسي وأسلحة بمختلف الأنواع.

أما الأعراض الأخطر، فقد لحقت بأمريكا، التي انحازت بشكل كامل إلى الرواية الإسرائيلية، واستخدم الرئيس الأمريكي جو بايدن تصريحات نتنياهو نفسها، بل وزاد عليها عندما قال إنني صهيوني، ولو لم تكن إسرائيل موجودة لاخترعناها.

هذا الموقف الأمريكي أفقد واشنطن دورها كطرف محايد في رعاية السلام، وعضو في الرباعية الدولية، التي تضم مع واشنطن الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، والاتحاد الروسي، فضلاً عن التحذيرات الصارمة التي أرسلها الدبلوماسيون الأمريكيون في الشرق الأوسط، وقالوا فيها: إن انحياز أمريكا لإسرائيل قد يفقدها مصالحها لمدة عشر سنوات مقبلة، وتحققت بعض هذه التحذيرات، عندما تعرضت القواعد العسكرية الأمريكية في سوريا والعراق إلى 165 هجوماً، منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، كما تعرضت السفن الحربية والتجارية الأمريكية لتهديدات المياه الدولية.

الخسائر تتوالى، البيت الأبيض يعيش أجواء انتخابية، غريمه الرئيس الأمريكي السابق ترامب، يتحين الفرصة للعودة إلى مقعده في البيت الأبيض، ربما تكون اللحظة مواتية له، سيما أن أسهم بايدن تتراجع وبقوة، بسبب مواقفه الداعمة للسلوك الإسرائيلي.

تداعيات الحرب على غزة نراها بوضوح على الجبهة الروسية - الأوكرانية، فقد ركزت واشنطن كل قواها لدعم تل أبيب، بالسلاح والأموال على حساب دعم كييف، الأمر الذي بات يؤثر على مجريات العمليات العسكرية، ومن ثم على معادلة الصراع الدولي بين حلف «الناتو»، بقيادة واشنطن وبين موسكو.

إذن الصراع أبعد من غزة، الحرب باتت رمالاً سياسية تتحرك بشكل سريع ومتدافع ربما يقود إلى اتساع نطاق الحروب والأخطار، التي تهدد بتحويل العالم إلى كرة لهب، ومن ثم لم يعد أمامنا سوى إطلاق التحذير الأخير إلى المجتمع الدولي، ومنظماته الدولية وقواه الحية، بضرورة إيقاف الحرب اليوم قبل الغد.