سعد الحريري عاد فعلاً، هذا إذا صح القول إنّه غاب ليعود. هو، كما ظهر، موجود في "صمود" تيار سياسي اسمه "الحريرية" أو "المستقبل" في الصيغة التي أرادها المؤسس الشهيد. و"المستقبل" هو العنوان الذي اختاره رفيق الحريري لبلاده وتياره، بلاد مستقلة مزهرة ومزدهرة، بحضور حاسم لجمهور الاعتدال واحترام الآخر ولجوهر علاقات العيش المشترك بين طوائف ومذاهب عدة يحكمها نظام برلماني يُدار بميزان ذهبي.
«الحريرية» في ذهن جمهورها وجمهور اللبنانيين ترسخت كإشارة إلى الاستقرار والنمو في سنوات صعودها الأولى، وعندما بدأت تصطدم بالأوامر السورية، وعراقيل أتباعها، اكتسبت صفتها الثانية كقوة استقلال وسيادة، تحولت، بالتعاون مع قوى أخرى وازنة، رافضة التلاعب بالدستور من أجل التمديد أو من أجل فرض قوانين انتخابية، إلى رافعة للعمل الديمقراطي البرلماني، وصارت تياراً جارفاً في وجه الهيمنة ومن أجل تحوّل استقلالي سيادي سلمي.
لا عجب أنّ رفيق الحريري مؤسس هذه المسيرة وقائدها سيتعرض للاغتيال في لحظة احتمال تحول المجلس النيابي بأكثريته من مصفّق للإدارة السورية إلى مجلس يتخذ قرارات استرجاع لبنان لدوره وطبيعته. لقد اغتيل في لحظة القرار الدولي بإخراج الجيش السوري من لبنان، بعد أن غطّى هذا القرار احتلاله وشرّع دخوله قبل ثلاثين عاماً، وقتل عشية انتخابات لبنانية كان مقيّضاً لها لو جرت بحضور الحريري الحاسم أن تنتج أكثرية نيابية تتولى استعادة حيوية النظام البرلماني في بلد افتقد هذه الحيوية طوال ثلاثة عقود.
صُفّي الحريري لمنع ذلك التحول الشرعي المشروع لحظة الخروج السوري بهدف ضمان نقل نظام الهيمنة إلى ميليشيا ودولة حليفة أخرى هي ايران الأقل «كفاءة» من النظام السوري في فهم لبنان ولبنانييه! والدليل إيصال النظام اللبناني إلى ما وصله الآن من ضرب للدستور وشلٍ للمؤسسات ورهن السلطة للسلبطة وللفراغ والشكليات.
الاحتمالات والآمال التي أثارها صعود الحالة الوطنية في مطلع العقد الثاني هي ما يفتقده اللبنانيون في غالبيتهم اليوم، ويفتقدها «الحريريون» وجمهور طائفة تعرّضت لضربة قاصمة في الاغتيالات المتتالية جسدياً وسياسياً، وزاد في المأساة أن الوريث، لم يتمكن أو لم يسمح له، أن يحاول... فمنذ أيار «المجيد» أنهيت احلام الأغلبية والأقلية في مجلس منتخب، وصارت السلطة في مكان خارجه وهذا كان الهدف من حدث اغتيال 14 شباط.
الإحساس اليوم بالحاجة إلى التغيير وعدم القبول بالأمر الواقع يتزايد، وهو شعور مشترك بين غالبية لبنانية، تقاد إلى الحرب بقرار حزبي، بدل أن تقودها دولة نحو النمو والازدهار... يضاف إلى ذلك شعور بالقهر والغبن في وسط طائفة منهم، تفتقد قادتها وقيادتها ولبنانها.
لهذه الأسباب والأبعاد كان الاحتشاد في ذكرى الأب، وهو احتشاد جاء ليقول إنّ الحريري يبقى موجوداً ولو انّه غادر قبل عامين، ومجيئه في ذكرى اغتيال والده هو امتحان للحضور في الراهن والمقبل من الأيام، امّا تحويل الحضور إلى فعل واسهام فسينتظر تغييراً في شروط فرض الغياب قبل عامين، وهي شروط داخلية لم تتغير، وشروط خارجية لم تسقط، تليها آليات ومواعيد تسمح بالعودة إلى قلب المجلس النيابي والحكومة والقرار.
- آخر تحديث :
التعليقات