ثمة اتفاق على أن يوم التأسيس هو الذي يشكل الرابط والمصدر لتجديد الهوية، أي تفكير في الهوية الوطنية ينبغي ألا يتجاوز هذه المناسبة، فهي البداية وهي الأساس الذي تطورت على ضوئه الهوية الوطنية خلال الثلاثة قرون الماضية. نحن نعتز بالبدايات ونعتز بواقعنا اليوم ونبحث عن واقع أفضل في المستقبل، وكما أننا صنعنا واقعاً جديداً قبل ثلاثة قرون يفترض أن نعمل على خلق خيوط الارتباط مع المنبع الذي تكون مع بداية تأسيس الدول السعودية الأولى مع التأكيد على أن تلك البداية كانت تحمل جانب جوهري يرتكز على المبادئ الدائمة وأخرى تعزز تلك المبادئ وتعكسها على الجانب المادي، ما يميز الاحتفاء بهذا اليوم هو كيف أن المبادئ المؤسسة لهويتنا استطاعت أن تخلق مظاهر بصرية متجددة عبر الزمن.
سؤال الهوية الوطنية طرحته على طالبات الدكتوراة قبل الاحتفال بالتأسيس بيوم، امتد الحوار إلى الفرق بين العاطفة والهوية الحقيقية، فغالباً ما تكون الهوية المظهرية التي هي غالباً مُفكّر فيها مسبقاً وجاهزة في الأذهان جزء من العاطفة والحنين إلى شيء ما سواء كان ذلك الشيء موروثاً تاريخياً أو غيره، وغالباً ما تتمظهر هذه الهوية بشكل مؤقت في مناسبات محددة، بينما الهوية الحقيقة هي مجمل القيم والتقاليد التي تطورت من المنبع وتحولت لتعبر عن روح العصر وتقنياته وأنماط الحياة التي تلائمه، وهي هوية مستمرة لكنها متغيرة ولها منتجاتها المتعددة مع مرور الزمن، تحدثنا عن مصطلح "الهوية المستدامة" Sustainable Identity وهو مصطلح غير واضح حتى باللغة الإنجليزية فقد كنت أقصد أنه لا يوجد هوية دون اقتصاد مستدام، وأن جميع الظواهر الاجتماعية والعمرانية والبيئية تتطور عندما يكون هناك اقتصاد ينمو باستمرار. حتى الثقافة واللغة والعلوم لا يمكن فصلها عن الاقتصاد، ويفترض أن يوم التأسيس يذكرنا بما يجب علينا فعله، وهو كيف يمكن خلق "هوية مستدامة" تعتمد على اقتصاد مستدام، لكن الهوية المستدامة لا تعني الهوية الثابتة بل تعني القدرة على خلق هوية تعبر عنا دون أن تقع هذه الهوية في شرك التاريخ والثبات المظهري المفتعل.
الرسالة التي تقدمها المناسبات الوطنية، خصوصاً تلك التي ترتبط بالبدايات، فالدولة السعودية -دون شك- خلقت هوية جديدة للجزيرة العربية وتحولت هذه الهوية إلى ثقافة متوارثة لكنها متطورة ومتكيفة مع الأحداث عبر الثلاثة قرون الأخيرة، أقول إن الرسالة التي تبعث بها مثل هذه المناسبات هي كيف نحافظ على وجودنا وعلى قوتنا وتأثيرنا؟ كيف نعزز من خيوط الارتباط بجذور تلك الهوية التي تشكلت في الماضي دون أن نذوب في تفاصيلها المظهرية؟ وكيف نقول للعالم إنه من "يوم بدينا" وحتى اليوم وفي المستقبل ونحن نتطور كل يوم. الهوية المستدامة هي هذه القدرة على التكيّف مع روح العصر وترجمة متطلباته والمشاركة في إنتاج أدواته وليست تلك التي ترقد في الماضي، وبالطبع فإن كل هوية تحتاج إلى أدوات، تحتاج إلى المنبع الذي صنع الهوية المبكرة وتحتاج إلى مجتمع حي مُبتكر خلاق يعرف كيف يعبر عن العصر الذي يعيش فيه ويستخدم كل أدواته ويخلق أدوات جديدة خاصة به.
كل هوية لها نواتها الإبداعية، وبالتأكيد إن مجموع المبادئ التي شكلت الهوية التي صنعتها الدولة السعودية الأولى استمرت بأشكال وصور متعددة وتكيفت مع الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية وولّدت هويات جديدة لكنها لم تنفك عن الارتباط بالنواة التي خلقت الهوية المبكرة، لذلك طالما وجدت أن الاحتفاء بالتقاليد ومظاهرها يظل في إطار الاحتفاء والتّذكّر، ولا يعني هذا الاحتفاء أننا لا نزال نعيش في الماضي، كما أن هذه التقاليد هي ضمن الجزء المتغير من النواة الإبداعية للهوية المبكرة كون النواة تتكون من عدة مستويات من المبادئ والمظاهر التي تتدرج من الثابت إلى المرن والمتغير، وغالباً ما تكون المظاهر المادية مرتبطة بالمتغير لأنها مرتبطة بتقنيات وأسلوب حياة عصرها، ربما يحثنا هذا على فهم ودراسة النواة الإبداعية التي خلقت الهوية المبكرة التي ولدت مع الدولة السعودية الأولى، وكيف أن تلك النواة كانت هي السبب الرئيس الذي جعل هذه الدولة تستمر رغم كل الظروف الصعبة التي واجهتها وساهمت في إعادة تشكلها كل مرة اعتقد البعض أنها ذهبت إلى غير عودة.
في الواقع إن الاحتفاء بيوم التأسيس جعلني أفكر في هذه النواة التي شكلت جوهر التجديد وساهمت في بناء هوية المجتمع السعودي. أعتقد أن هذه النواة تستحق مزيد من الدراسة، لكن يجب أن نضع في اعتبارنا دائماً أن الهوية المستدامة تولد باستمرار من هذه النواة التي لا تمثل المظاهر المادية جوهرها، وإن كانت تعتز بها وتعتبرها جزءاً من موروثها، لكنها ترتكز على منظومة مبادئ قادرة على البقاء والاستمرار وهذه المبادئ تتطلب مجتمعاً يعيها ويستعيدها في صورها المعاصرة والمستقبلية.
التعليقات