أين يفرّ الهاربون من الحروب المتناسلة والمتكرّرة بصيغة الجمع في بلدان مشرق العرب؟ الجواب: إلى اللامكان المُشتّت الذي قد يقيهم الموت المجاني، إذ يتعرّضون للمصير البائس فوق بقعة، بل بقع لم، ولن تشبع من الضحايا والخسائر.
كانوا يأتون، مثلاً، إلى بيروت ثمّ نحو محافظات لبنان التي باتوا يعرفونها ربّما أكثر من المواطنين. وبيروت مذ وُلدت بقيت العاصمة، بل الساحة العربية الغربية المؤقتة المقصودة والمحبوبة ممرّاً، أو وطناً بديلاً يختلط فيها الغرب بالشرق، والمسلمين بالمسيحيين، والجنسيات من كل أنحاء الأرض. هي بيروت بهذا المعنى السياحي الضيّق العاجزة عن أن تكون جزيرة منعزلة منضبطة الحدود في هذا العالم الشاسع المحيق بها الذي يعشقها. كانت وستبقى عاجزة بالمعنى السياسي بجمع الرؤوس والنفوس والألسنة، إذ لا يحق لها قطّ، كما ينطق تاريخها عاصمة لا قرار لها لا بالتسويات ولا بالسلام، ولا حتّى باللقاءات أو محاولة تخطّي الحواجز.
إنها أرض وملجأ قديم، وجميل، ومريح، يتجدّد حضانة للسفراء والقناصل والمندوبين والمبعوثين الذين تنتهي مهمّاتهم، لكن بيروت لا تنتهي، فبقوا فيها، وما عادوا إلى بلادهم، وآخرهم السفير الأمريكي فنسنت إم باتل المُقيم في لبنان منذ ال2004.
قالت المستشرقة إبريل غلاسبي سفيرة، أمريكا التي خدمت في سوريا والعراق ولبنان 1980 - 1988 في مقابلة صحفية، وهي التي شاركت رئيس مجلس النواب اللبناني حسين الحسيني، بتفصيل المسوّدة الأولى لاتّفاق الطائف الذي أُقرّ دستوراً للبنان في ال1989: «أعيش بين شقّتي المُطلّة على الجبل في كيب تاون، وبين منزلي في كاليفورنيا، فأتذكّر لبنان بمناظره الخلاّبة».
قد لا يفيدنا العالم كلّه لو وطئ أرض بيروت وطاف بلبنان، وتكلّم لغتنا، واعتاد على موائدنا، واصطاف في مرابعنا، وقشّر ثمار اللوز في اللقاءات فوق شرفاتنا، لأنّ بيروت بقيت، وستبقى عاصمة كأنها مستوردة، بل مهددة على الدوام ليست في الغرب، ولا في الشرق، ولا يمكنها أن تتحمل هذا التاريخ الثقيل الذي يجعلها أبداً أن تكون خطوط تماس بين الشرق والغرب، لانّها، وعلى الرغم من كلّ هذه المخاطر والمحاذير، أدمنت نفسها وأهلها ولبنانها، عاصمة تعشق الحياة والنار، طفلة ستبقى تلعب وترقص قرب، أو في قلب المواقد والنيران المشتعلة منذ ال1948.
لماذا هذا الكلام وما مناسبته؟
لأنه يتوخى القفز فوق المناسبات والأحاديث الجميلة، إذ بات من اليقين في موازين التاريخ أنّ استغراق أجيال السياسة إيّاها وإعلامييها، خصوصاً في التفاصيل التقنية والمتناقضات التي يعممها الغرب بمعناه العريض، ما زالت تحيّرنا، لتُعمينا عن جوهر الأحداث الضخمة التي عرفناها، وهي تتكرّر في التاريخ المعاصر، حيث يُفترض ربطها ببعضها بعضاً، وفهم مغازيها ومعانيها ومستقبلها، منذ سقوط الشاه في ال1979، إلى الحرب العراقية الإيرانية، فسقوط الكويت، وخروج صدّام منها أمام صوت التحالف الأمريكي الأوّل، فوقف مسلسل الحروب الدموية في لبنان انطلاقاً من حواريات بقايا البرلمان اللبناني في مدينة الطائف 1989 ومن ثمّ الانتظار الدولي دزينة من السنوات، ليفاجأ العالم بالسقوط الأمريكي المُعقّد تحت أنقاض البرجين، فالحروب المفتوحة في أفغانستان، وسقوط صدّام في الحفرة، وسقوط عراقه في المستنقع الدموي، إلى خروج ليبيا من الشرق العربي، وغطسها أمام الضغوط الأمريكية في هموم القارة الإفريقية، وصولاً إلى سقوط الرئيس رفيق الحريري في قلب بيروت التي بناها، كما بنى الجسور والطرقات، وفي ذهنه صورة محمّد علي، وصولاً إلى غزّة 7 أكتوبر، ومعها جنوب لبنان، كأنّ الأزمنة والأحداث مدمنة غزو العقول، ومُراكمة الأعباء المتزايدة والتحدّيات، أمام تبعثر سبحة الأنظمة العربية لشدّة الغموض والازدواجيات الدولية، وتعمية البصائر بسلاسل من السيناريوهات الرهيبة التي تُلامس الخيال، بما يخرجنا من الوقائع الكبرى إلى التلهي بالتفاصيل في فهم الحقائق والمخططات الدولية الكبرى.
هكذا تطفو الحقائق وتتسع، لتجعلنا داخل حلقة جديدة تتوسّع عبر سلسلة من الحلقات والأحداث المتواصلة والمحكمة الاتّصال والتي تدخل كلّها في ما يجعلنا على ضفاف الشرق الأوسط الجديد. أمّا العدّة الممتازة لتحقيق هذا الشرق المرسوم فعبر ترسيخ تلك «الفوضى الخلاّقة أو البنّاءة» التي استهلكت الكثير من الحبر والشرح، وبات الجميع يحفظونها ويعاينونها عن ظهر قلب. إنّه سيناريو يرشح من واقع سلخ فلسطين الأوّل، نقطة الصراع الأولى والمستمرة بتاريخها المعلوك أممياً، عبر الأجيال بين العرب وإسرائيل ودول العالم. السبب أنّ السلام النهائي يبدو مسألة متأرجحة أبداً، لاستحالة حسمها، لطالما هي وثيقة الربط بالشعوب المتباعدة، ليبقى الأمر في خانة التسويات المؤقتة. والمعروف بأن التسويات لا تفرز استقراراً، ولا هدوءاً، ولا حوارات مثمرة في ما بين الدول.
من يُقيم، أو يدرس في الغرب يُلقن بأنّ المسيحية حققت ثوراتها الكبرى إذ تخلّصت من الميراث الديني منذ أيام نابليون بونابرت الذي نقش خطاه العسكرية فوق عتبة التاريخ المعاصر، بفلاسفة كبار أمثال روسو، ومونتسكيو، وديديرو، وفولتير..إلخ، وقعد بفتوحاته فوق عصر الأنوار محدثاً الفصل التام بين شؤون الدين وشؤون الدنيا، كأنّ المطلوب إذن، ثورات مشابهة في بلدان العالم تخفي عناد الغرب وتعقيدات سياساته المتتابعة بهدف التغيير.
التعليقات