لا أحد اليوم ينكر أن الفكر الليبرالي يعيش أزمة نظرية ومجتمعية عميقة، تبرز في صعود النزعات الشعبوية والقومية المتطرفة من داخل الأنظمة الديمقراطية الليبرالية نفسها، إلى حد أن فريد زكريا تحدث منذ سنوات عن انبثاق «الديمقراطيات غير الليبرالية» في قلب العالم الغربي.
ولم تفتأ الكتابات تتزايد في الآونة الأخيرة حول أزمة الليبرالية، ومن أهمها كتاب للفيلسوف البريطاني «جون غراي» تحت عنوان «اللفيتانات الجديدة: أفكار ما بعد الليبرالية»، وكتاب آخر للمؤرخ الأميركي صامويل موين بعنوان «الليبرالية ضد نفسها»، وقد خصصت لهما الباحثة المختصة بالمسألة الليبرالية «هيلينا روزنبلات» مقالةً نقديةً مهمةً في العدد الأخير من مجلة «فورين آفيرز» الأميركية (مارس - أبريل 2024).
ما يتفق فيه المؤلفان هو أن الليبرالية تعيش أزمةً خانقةً من داخلها، ولكنهما يختلفان جوهرياً في تشخيص أسباب وخلفيات هذه الأزمة واستشراف آفاقها ومآلاتها. فغراي يعود بنا إلى بدايات الحداثة السياسية، ويحيل في كتابه إلى هوبز الذي تصوّر الدولة في شكل حيوان أسطوري متوحش (اللفيتان) تقتضيه طبيعة الإنسان الأنانية وميله الطبيعي إلى العنف والتسلط. ومن ثم فإن الليبرالية، وإن ادعت الاستناد إلى قيم الحرية والإنسانية الكونية، فإنها في الحقيقة تتأسس على القهر والتحكم وإخضاع الفرد لسلطة الدولة الاستبدادية.
إن مصدر هذا الانزياح بين المبدأ والواقع هو ما سماه غراي وهمُ تلازم الحرية والسوق وما يترتب عليه من ارتباط التحرر السياسي وانتشار المنظومة الرأسمالية الكونية، في الوقت الذي يَظهر أن منطق السوق أفضى في العالم المتطور، على اختلاف أنظمته السياسية، إلى حالة متجذرة من التفكك الاجتماعي والانهيار المؤسسي هي البيئة الملائمة للاستبداد والتسلط الأعمى.
ومن بين المصادرات التي كرسها هذا «الوهم»، حسب غراي، النزعة الإنسانية التي أفضت إلى النظرة التراتبية الإقصائية لبعض أنواع البشر والمجموعات، وفكرة التقدم التاريخي المفضي لتحسن النوع البشري، والاستثناء الغربي بمعنى الإيمان بأن الإنسان الغربي ينفرد بكونه يعيش في مجتمع حر.
والحال بالنسبة لغراي أن المجتمعات الغربية في ظل التحولات التقنية والاقتصادية الراهنة، لم تعد مجتمعات حرة، بل أصبحت عاجزة عن إنقاذ الحضارة التي بنتها وعن تأمين كرامة وحرية الإنسان داخلها، وبذا فهي لا تختلف نوعياً عن بقية المجتمعات الأخرى في العالم. والخلاصة التي يصل إليها غراي هي أن الفكرة الأصلية المؤسِّسة للمنظومة الليبرالية ليست الحرية وإنما الحاجة إلى الدولة القومية الحارسة والراعية، ولقد تحولت هذه الدولة تدريجياً في الغرب إلى نظام تحكمي قهري، في الوقت الذي انحسرت آليات التوازن التي ضمنت في بعض المراحل الحريات العامة والفصل بين السلطات.
أما مقاربة موين فتختلف عن هذه الأطروحة، ذلك أنه يميز بين الليبرالية الأصلية التي راهنت على فكرة التقدم الإنساني وبلورت معايير وأدوات التحرر الفردي والجماعي، وبين ليبرالية الحرب الباردة التي كانت أقل تفاؤلاً من حيث رؤيتها السلبية للحرية وتبنيها للسلطة المطلقة للدولة، مما أدى بها إلى السقوط في فخ النزعات النيوليبرالية والمحافظة الجديدة التي هي في تعارض جذري مع الأفق الليبرالي الحقيقي.
ومن الواضح أن هيلينا روزنبلات في تعليقها على الكتابين تتبنى بقوة الأطروحة الليبرالية الكلاسيكية، وترفض المقاربة الهوبزية التي ينطلق منها غراي، وتعتبر أنها لا تدخل في نطاق الفكر الليبرالي الحديث، بل تكرس التصورَ التسلطي الإطلاقي للدولة، كما أنها تتمسك بخيار الإصلاح الليبرالي الداخلي من أجل إخراج المجتمعات الصناعية الغربية من مأزقها السياسي الذي لا غبار عليه.
ما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن مقولة الليبرالية بقدر ما تعبر عن حقائق تاريخية موضوعية، تغطي على رهانات إشكالية معقدة عاشتها المجتمعات الغربية الحديثة. ولئن كان من الصحيح أن الأطروحة الليبرالية قامت على مثال التقدم والتحرر الإنساني بما اقتضى لاحقاً وضعَ النظم المؤسسية الكفيلة بتجسيد هذا التحرر، إلا أنها عاشت منذ البداية مفارقة الحاجة المتزايدة للدولة من أجل تكثيف الحريات الفردية في استقلال عن السلطة المركزية.
ومن هنا أدت مرجعية السيادة المطلقة للدولة وظيفتين متعارضتين: تحرير الفرد من قبضة السلطات المجتمعية المتحكمة في وعيه وحريته من خلال ربطه بالكيان العمومي المجرد، وتقليص هوامش استقلاليته وحريته من خلال نظام الضبط الشامل والتحكم الرخو الذي أطلق عليه الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو عبارة «السلطة الحيوية».
ومن هنا نخلص إلى أن أزمة الليبرالية الغربية لها جذورها البعيدة، وإن كانت لها تجلياتها الراهنة التي تعكس واقع وتطور المجتمعات الصناعية الرأسمالية الحالية.
التعليقات