أراد العرب للسكوت أن يكون من ذهب، إذا ما كان الكلام من فضة، وعدّوا الصمت أحد تمظهرات السكوت؛ فكلما زاد الشخص في قوله، انفرطت الأمور وقلت سيطرته عليها، لترتفع احتمالات التفوه بالحماقة، فقلة الكلام تصنع مظاهر القوة، واستدلوا على فاعلية قلة النطق، بأنه حتى توافه الكلام، إذا ما تركت غامضة ومفتوحة كرمز، بدت للآخرين كلاماً أصيلاً ذا معنى؛ فالناس «آلات تفسير وتوضيح»، دائماً ما يدفعها الفضول للتحليل.
والصمت أجدى لمن كان حكيماً، وقد يُفقد الصمت الآخرين راحتهم، فتتحرك شفاههم امتعاضاً، ليربح الصامت في ذلك بعض أسرارهم، والأقدمون قد حرصوا على أن قول الأقل مما هو ضروري، يضمن السلامة، وإليك الدليل، في سنة 1825، في عهد القيصر نيقولا الأول، انفجرت مظاهرة في روسيا، فرأى المهتمون أن بعض مطالبها يصعب تلبيتها، فعملوا على تفريقها، وجرى اعتقال أحد قادتها ويدعى «كوندارتي ريلييف»، وحكم عليه بالإعدام. في يوم تنفيذ الإعدام، وقف ريلييف على منصة الإعدام.
وقد التفّت أنشوطة الحبل على عنقه، ولكنه حينما تدلى من الفتحة الخشبية، انقطع الحبل به فألقاه أرضاً. وفي ذلك الزمان، كانت حوادث كهذه تعد إشارات من العناية الإلهية؛ فمن ينجو من الإعدام بهذه الطريقة، يحظى بعفو. وحينما نهض ريلييف على قدميه، مصاباً ببعض الرضوض، ولكنه فرح بأن عنقه قد سلمت، صاح في المحتشدين: «هل ترون؛ إنهم لا يعرفون حتى كيف يصنعون حبلاً؟».
توجه رسولٌ في الحال إلى القصر الشتوي حاملاً خبر الإعدام الفاشل، فانزعج القيصر لخيبة الأمل هذه، وأوشك على توقيع العفو، غير أنه سأل الرسول: «هل قال ريلييف أي شيء بعد هذه المعجزة؟». رد الرسول: «لقد قال إنهم لا يعرفون حتى كيف يصنعون حبلاً»، فقال القيصر: «في هذه الحال، دعونا نثبت العكس»، ومزق مرسوم العفو، وشنق ريلييف في اليوم التالي، وفي هذه المرة كان الحبل متيناً. يبقى الوقت والصمت من نفائس الأشياء.
التعليقات