في عصرنا الراهن صرنا بحاجة إلى قياس النزاهة. وربما كانت النزاهة من السلوكيات القليلة التي يصعب أن تستشعرها جهود مسبقة من دون الوقوع في فخ الموقف. فالسمعة الخداعة قد تبددها مغريات الموقف. حينما يعرض تاجر شراء أرض من موظف في شركة عقارية أو استثمارية فيقيمها بأقل من سعر السوق ليحصل على مكافأة خارجية (رشوة) تمكن المشتري من بيعها بسعر فوري أعلى من السوق، فقد وقع الموظف في مصيدة النزاهة وخداع الإدارة العليا بتقييم غير عادل. ولهذا يقول الله تعالى في محكم كتابه: "إن خير من استأجرت القوي الأمين". القوي هو الكفؤ والأمين، مجموعة خصال في مقدمتها النزاهة.

كانت معرفة الفرد وسمعته وما زالتا تأتيان من سؤال محيطه، وتزكية أقرانه، لكن مع اتساع رقعة المشاريع وارتفاع أعداد المقبلين على الوظيفة إلى المئات وربما الآلاف، صارت الحاجة ماسة لدى بعض الجهات لاختبار نزاهة المتقدمين لشغل الوظيفة أو المنصب.

وهناك طرق عديدة لكشف جانب من النزاهة مثل الميل نحو الإنصات بدلاً من التحدث، وهو ما يجعلنا نفهم بعمق كل شاردة وواردة يقولها المتقدم للوظيفة. ومنها طرح أسئلة في غاية الصراحة، لكنها تساعد في تكوين فهم لشخصيته. مثل ماذا تفعل في الموقف الفلاني، أو هل تقبل بكذا وكذا. في بعض الأحيان يكون الحصول على شهادة حسن سير وسلوك (أو الصحيفة الجنائية) دليلاً مكتوباً. ولا تكتفي بعض المنظمات بذلك فتلجأ إلى التحقق من وجهة نظر المديرين السابقين عن نزاهة الموظف أو المسؤول الجديد.

وقد عملت تجربة اجتماعية سألت فيها نحو 35 شخصاً في فصل دراسي لأعمار تتراوح بين 20 إلى 25 عاماً، عن ماذا يمكن أن يصنع كل منهم إذا كان موظفاً في البنك، ثم عرض عليه عميل مهم هدية بقيمة 300 دولار نظير خدماته، وذلك قبل هجرته من بلاده إلى دولة أوروبية، فتنوعت الإجابات. الأولى: رفض فريق أخذ أي مبلغ من عميل حتى لا يستغلهم لاحقاً بمعاملة أو طلب يخالف اللوائح. الثانية: استعداد البعض لقبول الهدية شرط أن لا تكون في فرع البنك ومن دون معرفة الزملاء (يعني خُفية). والثالثة: فريق مال نحو قبولها فوراً باعتبار أن احتمالية تعامله مع البنك تكون قليلة بحكم هجرته.

ما لفت نظري أن كل فريق أوجد مبررات اعتبرها وجيهة. لكن واحداً منهم كان فطناً فقال: إذا كانت الهدية في حدود المبالغ المقبولة في لوائح المصرف فسوف أقبلها. وبالفعل عادة ما تحدد الجهات قواعد وسقفاً بمبالغ محددة لا يمكن بأي حال من الأحوال قبولها تكون عادة في حدود 100 دولار. غير أن قمة النزاهة تكون في قبول الهدية الرمزية كعلبة شوكولاته فاخرة وإخبار العميل بأنه سوف يضعها في الصالة الرئيسة للزملاء وعملاء البنك. وهي إشارة إلى لطافته ونزاهته.

خلاصة الأمر أن النزاهة أمر يتطلب أن يشرح جيداً للموظفين، الصغار تحديداً. ولذلك فإن الاكتفاء بالاختبار قد يخسرنا كفاءات مهمة لم يتسن لها أن تعمل في بيئة عمل مهنية تعلمها معنى النزاهة وأشكالها، وخطورة صورها الخفية التي يمكن أن يتعرض لها الموظفون. فهناك من أمضوا باقي حياتهم خلف القضبان لاعتقادهم أن أحداً لن يمكنه كشف خيانتهم للأمانة. مثل التزوير، أو قبول الرشوة، أو ترقية غير مستحقة للاستفادة المتبادلة من منفعة مادية خارج أسوار العمل وغيرها.

اختبارات النزاهة Honesty Test قد تكشف جانباً من حقيقة الفرد لكن المحك الحقيقي هو ما يفعله في معترك العمل والحياة.