للمطلع الشعري أهمية بالغة في نفوس الشعراء وعند من يتذوقون الشعر، وليس المطلع مفتاحاً للقصيدة أو مصراعاً فحسب، بل هو شعلة الإبداع الأولى التي تنبه الإحساس، وتوقظ العواطف، وتبعث على الجمال؛ ولهذا أَولاه بعض النقاد قديماً عنايتهم، فأطلقوا عليه أوصافاً من قبيل: البداية، والمقدمة، والاستهلال، والافتتاح، وتوقّف بعضهم عنده ضمن ما يعرف ببراعة الاستهلال، وحسن الافتتاح، والابتداء، وجمال المطلع، ونحو ذلك من النعوت التي تدل على قيمة البداية، وأهميتها في العمل الإبداعي.
وقد تعدّد ذكر (نجد) عند البلدانيين، غير أن الذي عليه أكثرهم هو أنها أرض في وسط الجزيرة العربية، وهي اليوم في قلب المملكة العربية السعودية، تحتضن مدن: الرياض، والقصيم، وحائل، وما جاورها، وأحاط بها قليلاً، وتتنوع تضاريسها ما بين سهول، وجبال، وصحارٍ، ورمال، ووديان، وأشجار، وبيئة حيوانية، وكانت منذ القديم مكاناً ملهماً لكثير من الشعراء الذين طربوا لأرضها، وطيب هوائها، وهاموا بذكرها، واشتاقوا إلى تفاصيلها، وحنّوا إليها، حتى غدت موطناً للشعر يجذب كل من نزلها، أو يمرّ بها، وصارت محرضة على الإبداع، ومحفزة للوجدان، ومن أكثر المواضع ذكراً في الشعر العربي.
ولو بحثنا عن الشعر الذي قيل في نجد لألفيناه كثيراً، وهو على نوعين: مخصوص يتناول نجداً بشكل مباشر، وعام يعرِض لها عرضاً، فتأتي فيه على نحو طارئ، وكلا النوعين كثير، وذو تأثير، وشواهدهما أكثر من أن يحيط بها مقال، أو يضمها مثال، ولعلنا نشير إلى بعض النماذج، فمن ذلك قول أبي تمام: «إنْ حَنَّ نجدٌ وأهلوه إليكَ فقد / مررتَ فيه مرورَ العارضِ الهَطِل»، وقول أبي فراس الحمداني: «يذكّرني نجداً حبيبٌ بأرضها / أيا صاحبي نجوايَ هل ينفعِ الذّكُرُ؟»، وقول الآخر: «أشوقاً إلى نجدٍ ودون لقائها / أجاديلُ يخشى قطعها وبسابس»، وقول الآخر: «أشتاق نجداً كما أشتاق ساكنه / وهل لحيٍّ فؤادٌ ما له سكنُ»، وقول جرير من قصيدة له طويلة أكثر فيها من ذكر نجد: «إلى الله أشكو أن بالغور حاجة / وأخرى إذا أبصرت نجدا بدا ليا»، وقول الآخر: «هبّت فعلمتُ أنها من نجدٍ / ريحُ نسيمها أريجُ الرنّدِ».
غير أن الذي يلفت الانتباه، ليس ذكر نجد في القصائد بشكل مخصوص أو عارض، بل مجيئها في مطلع الشعر، وأوائل القصائد، وهو ما يعني أهميتها لدى الشعراء، وقد أحصيت جملة كثيرة من الأبيات، فمن ذلك: «حِيّ نجداً وأين مِن مَرْوَ نجدُ / إنما يبعث التحيةَ وَجْدُ»، ومن ذلك: «ألا ليت شعري هل تغيّر بعدنا / عن العهد أم أمسى على حاله نجدُ»، ومثله: «أحنّ إلى نجدٍ وإني ليائسٌ / طوال الليالي من رجوعي إلى نجدِ»، وكذلك: «أكرر طرفي نحو نجدٍ وإنني / إليه وإن لم يُدرِك الطرفُ أنظرُ»، والبيتان الأخيران للصمة القشيري (ت 96هـ)، وهو من أكثر من تحدثوا عن نجد في مواضع كثيرة من شعره.
ولعل تكرار نجد في القصيدة الواحدة ملمح آخر ذو دلالات عميقة: فنية، وعاطفية، ونفسية، وجمالية، وتاريخية، كما أن مجيئها في ختم بعض القصائد أمر ملحوظ، كما عند الصمة القشيري أيضاً في قوله: «فكذّبتُ نفسي ثم راجعتُ نظرةً / فهيّج لي شوقاً لنجدٍ يقينها»، وهو ما ينبغي الالتفات إليه؛ ذلك أنه يشير إلى قيمة هذا المكان في نفوس الشعراء، وأنه إشعاع يضيء جوانب القصيدة.
التعليقات