يُحْسَب للفلسفة السّياسيّة الحديثة والمعاصرة حرصها، الذي دَأَبَت عليه، على مراجعة معطياتها الفكريّة عن السّياسة والدّولة والسّلطة، وسواها من مسائل المجال السّياسيّ، كلّما لاحظت قصوراً مّا اعتورَ نظرتَها إلى هاتيك المسائل؛ أو كلّما تبدَّت فجوةٌ بين ما تقوله عن السّياسة نظريّاً وما هي عليه أحوال السّياسة في الواقع الماديّ؛ أو كلّما عرَضَتْ لنموذج الدّولة - الذي دافعتْ عنه - أزمة في نظام عمله فاحْتيج، عندها، إلى إعادة فحصه نقديّاً لبيان مَوَاطن العطب فيه.
وفي هذه الحالات من وقوفها النّقديّ أمام إشكاليّات السّياسة، كانت الفلسفة وفيّةً لجوهرها المعرفيّ الحيّ الذي به تفرَّدت عن سواها من أنماط التّفكير الأخرى: النّقد، بقدر وفائِها عينِه للواقع الموضوعيّ وظواهره: والسّياسة منها.
الغالب على موقف فلاسفة السّياسة النّقديّ ممّا يكتبونه في شأنها، وممّا يكتبه غيرهم، أنّهم يبْنون ذلك النّقد على معيارين: على معيار الواقع، واقع السّياسة نفسها وما يَعْرِض لها وللدّول من أحوال تبعث على التّفكُّر والمراجعة؛ وعلى معيار الفكر، والفلسفة على وجه التّحديد؛ من حيث إنّ للنّظر في مسائلها قواعد وأصولاً وموارد تحتاج، باستمرارٍ، إلى تغذيةٍ وتعظيم. المعياران هذان ليسا متلازمين، بالضّرورة، دائماً بحيث يَلزَم واحدُهما الآخر في الوقت عينه، بل هما معياران متضافران في تأدية الوظائف عينِها. لكنّهما قد يتلازمان - إنْ تَلازَما - في حالاتٍ بعينها تفرض ذلك، ومنها الحالات التي يقع فيها تأزّمٌ سياسيّ فيصير الاحتكام إلى الواقع والفكر، عندئذٍ، أمراً لا مندوحة عنه.
وهكذا، لأن الواقع الموضوعيّ مختبرٌ لقياس درجة السّواء أو الخلل في أي ظاهرةٍ إنسانيّة أو اجتماعيّة، كان على الفلاسفة أن يحرصوا - على الدّوام - على إعادة فحص معارفهم التي كوّنوها عن ظواهر عدّة من هذا النّوع في ضوء واقعها، أي بالنّظر إلى ما هي عليه حالُها في الواقع الماديّ. هكذا كانت تجارب الدّول والسُّلَط تُمِدُّ هؤلاء، وخاصّةً فلاسفة السّياسة، بالموادّ الكافية لتكوين الشّواهد والقرائن على هذا الوضع أو ذاك من أوضاع الدّولة؛ أعني بإقامة الدّليل على الاختلال فيها أو على الانتظام.
من المسلَّم به أنّ الحكم على نموذجٍ دولتيّ أو سلطويّ لا يُبْنى على انطباعٍ يتكوّن من محض الإفادات المتأتيّة من الملاحظة، ولكنّ تواثُر الملاحظة ومعطياتها وما يترتّب عن تلك المعطيات من نتائج، تبدو من فرط تكرارها وكأنّها قوانين ثابتة، تسمح ببناء فرضيّات للتّفسير والانتقال منها إلى اشتقاق استنتاجات نظرية حول الظاهرة السّياسيّة المدروسة والأوضاع التي هي عليها إيجاباً أو سلباً.
هكذا، مثلاً، كان لا بدّ لأحداث سياسيّة كبرى من أن تقع في التّاريخ الحديث والمعاصر (الثّورتان الإنكليزيّتان الأولى والثّانية، الدّستور الأمريكيّ، الثّورة الفرنسيّة، الثّورة البلشڤيّة، صعود النّازيّة، صعود الدّيكتاتوريّات والفاشيّات العسكريّة...) لكي يصبح في الإمكان إعادةُ النّظر في الأنظمة السّياسيّة الحديثة وما يعتور نظام اشتغالها من قصورٍ وخلل. والحقّ أنّ الحقبة الفاصلة بين نجاح الثّورة الفرنسيّة وانهيار النظام النازي في ألمانيا - ومعه بداية تطبيق سياسات نزع الستالينيّة في الاتّحاد السّوفييتيّ - هي حقبة النّقد الفلسفي للدولة ونظام الحكم بامتياز... للأسباب التي سَلَف الإلماحُ إليها.
في مقابل هذا المعيار، الذي هو موضوعيّ بالنّسبة إلى فلاسفة السّياسة، ظلّ للأخيرين معيار ذاتيّ من الفكر: من الفلسفة عينِها، يقيسون به أحوال السّياسة والدّولة. من النّافل القول إنّ صورة الدّولة في الوعي، أي مفهومها ومبْناها النّظريّ، (هي) غيرُ الدّولة في الواقع لسعةِ المسافة بين الفكرة وتجسيدها الماديّ. مع ذلك، ما كان يمكن لأيّ فيلسوفٍ غيرَ أن يقرأ واقع الدّولة القائمة في ضوء محدِّداتٍ نظريّة وضعتْها للسّياسةِ فلسفةُ السّياسة. ماذا يكون نقدُ الدّولة أو النّظام السّياسيّ - حين يكون هناك نقد - سوى محاكمة الواقع السّياسيّ القائم بإِعمال مبادئ نظريّة وبيان تعارُض ذلك الواقع معها أو مجافاته لها.
والنّقد الفلسفيّ للسّياسة، في مثل هذه الحال، يكون مزدوجاً أو قُلْ يكون، على الأقلّ، بمعنييْن: بمعنى أنّه نقد يتوسّل مفاهيم نظريّة الدّولة الوطنيّة - كما صاغتها الفلسفة الحديثة - لكي يحاكم بها الدّولة القائمة ويفحص عمّا إذا كانت قد حادت عن مفهومها المرجعي أو تراجعت عنه؛ ثمّ بمعنى أنّه نقدٌ يعيد النّظر في المفاهيم والمنطلقات الفكريّة والهندسة النّظريّة لنموذج الدّولة المرغوب، إن تبيّن أنّ في منظومة النّظريّة خللٌ مّا يستدعي الفحص والمراجعة.
في الحالين، يكون الفكرُ معيارَ النّقد وسلاحَه وأداة التّصحيح الأولى. والحقيقة أنّ الفلسفة السّياسيّة، الحديثة والمعاصرة معاً، منذ هيغل حتّى اليوم مارست النّقدَ هذا بالمعنييْن المشار إليهما فوق؛ فكانت تُراجع أحوال السّياسة في ضوء الواقع، وكانت تراجعها في ضوء الفكر أو تفحص عن حال الخلل في ذلك الفكر نفسه.
التعليقات