يعد مفهوم (التبئير) عند نقاد السرد المعاصرين بديلاً عن المصطلح المعروف بـ(وجهة النظر)، أو الرؤية، أو الصيغة السردية, وقد حاول الناقد الفرنسي (جيرار جينيت 2018م) في أوائل السبعينات من القرن المنصرم أن يصوغ مصطلح (التبئير)، عندما استمده من تصور الناقِدَين الأمريكِييَن (روبيرت بيين وارين)، و(كلينث بروكس) عندما اقترحا سنة 1943م مصطلح (البؤرة السردية)، وعدّ (جينيت) في كتابه (نظرية السرد) ذلك المصطلح معادلاً لوجهة النظر، ثم أوضح تطويره لذلك المفهوم في كتابه (عودة إلى خطاب الحكاية) قائلاً: «ومن ثم فأنا أقصد بالتبئير تقييداً (للحقل) أي في الواقع انتقاءً للخبر السردي، بالقياس إلى ما كانت التقاليد تدعوه علماً كلياً, أو المعرفة الكلية».
ومن العرب الذين ناوشوا مفهوم التبئير الدكتور التونسي الصادق قسومة – رحمه الله – وكان قد أصّل ضمن مشروعه النقدي الكبير إلى كثير من المسائل، والنظريات النقدية، لعل من بينها (التبئير)، حيث أشار في كتابه (علم السرد، المحتوى والخطاب والدلالة) الذي طُبع في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 2009م - وكان أستاذاً بها - إلى أن التبئير: «مصطلح فيزيائي يوناني المصدر, وهو يعني تعديل مقدار النظر، وهو عبارة تعني في الأصل جمع الأشعة, وتوجيهها متضامنة وجهة معينة, وقد استعملت خصوصاً في مجال المجهر, ويقصد بها تحديد فتحته, وضبط العدسة المناسبة لرؤية حقل معين».
ومثله في ذلك أستاذنا الناقد التونسي الدكتور محمد القاضي الذي أشار إلى أن استعمال كلمة (تبئير) فيزيائي، يشير إلى الحزم الضوئية, أو تيار (الإلكترونات) التي تلتقي في نقطة معينة؛ لذلك يمكن أن تكون تلك الأصول الفيزيائية علة في اختيار الناقد الفرنسي (جيرار جينيت) مصطلح (التبئير) بديلاً عن غيره, ولا سيما أنه نصَّ على تلك العلة في كتابه (نظرية السرد) عندما قال: «ولكي نتجنب المضمون البصري الخاص جداً لمصطلحات الرؤية, ووجهة النظر, فإنني سألجأ إلى مصطلح التبئير الأكثر تجريداً, والذي يستجيب لتعبير (بروكس)، و(وارين) (مأوى السرد (focus of narration».
لهذا استفاد (جينيت) من الجانب المعرفي الفيزيائي الأعمق، كالبؤرة, والبعد البؤري، والنقطة البؤرية، وفتحة البؤرة, والصورة البؤرية، وهو وإن تحاشى الالتباس بالمفهوم الفيزيائي, لكنه استجاب لمفهوم فيزيائي آخر أكثر دقة وعمقاً، وأظنه قد أفلح في توطيد أركان المصطلح حينما عمّق من تحاقله البيني مع الفيزياء.
إن التبئير عند (جينيت) كما يقول الناقد التونسي الدكتور محمد نجيب العمامي – رحمه الله – في كتابه (وجهة النظر في الرواية): «مصطلح ارتآه معوضاً لمصطلح الرؤية, وذلك بعد أن رأى فيه ذاتية تبعده عن الموضوعية العلمية مقابل خياره الذي جنح به للتجريد والقياس الكمي, وهو خيار نزع عنه كل ما يذكّر بالقيمة، أو المعنى، بسبب طبيعة المباحث الإنشائية المحايثة ..».
ويقول الناقد المغربي الدكتور سعيد يقطين في كتابه (الكلام والخبر): «فالتبئير هو المفهوم الجديد الذي جاء ليحل محل (وجهة النظر)، و(المنظور) في الدراسات ما قبل السردية»، كما ذكر الناقد التونسي الدكتور محمد الخبو أن (جينيت) ميّز بين مسألة التبئير المرتبطة بعمل إدراك الأشياء، والشخصيات القائمة في العالم الحكائي, وأن مسألة الكلام القائم به الراوي يساوي العمل الإدراكي قولاً سردياً, غير أن (جينيت) لم ينصرف البتة عن دراسة مسألة التبئير مرتبطة بمسألة القول ضمن ما سماه على لسان الألماني (ستانزل) وضعاً سردياً, أو مقاماً سردياً, قوامه وصل عمل التبئير بعمل القول السردي.
التعليقات