في بلد عربي، اكتشف من قبل جهات الاختصاص مجموعة من الرجال، من بينهم رجال قانون وأعمال وأطباء، يستدرجون أولاداً صغاراً بشتى المغريات عن طريق أحدى وسائل التواصل الاجتماعي، لينتهي الأمر بهؤلاء الصغار إلى الاعتداء الجنسي عليهم، ثم ابتزازهم ليبقوا خاضعين لشهوات أولئك الرجال الجنسية، بما يؤدي إليه ذلك الوضع المأساوي لأولئك الأطفال من شتى العلل النفسية والعقلية، ومن اعتزال عائلاتهم وأصدقائهم ونشاطاتهم، وفشلهم الدراسي المتكرر المحيّر.

وفي بلد عربي آخر، قتل شاب شاباً آخر، ثم شوّه جثته وأرسل صورها إلى شاب مريض حاقد كان قد طلب منه أن يفعل ذلك مقابل مبلغ كبير من المال، والهدف هو التلذذ برؤية صورة الجثة وهي تتداول بين الناس.

هذان حادثان تداولتهما وسائل التواصل الاجتماعي على نطاق واسع. ولم يكونا بالطبع إلا رأس كتلة الثلج الطافح في بحار منطقتنا.

إذ من المؤكد أن هناك آلاف الحوادث المماثلة التي تبقى في عالم الأسرار بسبب شتى الأسباب الخاصة أو المجتمعية، وهي لا تقتصر على بلاد العرب، بل أصبحت ظاهرة عالمية تحت مسمى «مشاكل وأمراض شبكات التواصل الإلكترونية». وإن أي مراجعة لأدبيات الموضوع ستظهر أعداداً هائلة من المقالات والكتب والتسجيلات المصورة وغيرها، والتي تؤكد أن الموضوع قد أصبح موجوداً في العالم كله بصور مقلقة للغاية.

والواقع أن الغرب الذي طور تلك الوسائل، والذي يهيمن على كل استعمالاتها، يعاني هو الآخر ما نتج عنها من مصائب اجتماعية. فبعض الدراسات البحثية لديهم أظهرت أن نحو ثلاثين في المئة من شبابهم، إما أنهم كانوا من ضحايا وإما من ممارسي التنمّر الشبكي. وفي إنجلترا اشتكى واحد من كل أربعة يافعين من أنهم تعرضوا لشتى أنواع التنمّر والإغراءات والتلاعب بالعواطف الحميمية. ولقد أوصلت تلك الظاهرة بعضهم إلى حالات الكآبة واليأس من الحياة والتفكير في الانتحار.

وأظهرت بعض الدراسات أنه قد أصبح بالإمكان ممارسة الكذب والخداع والإغراء من قبل بعض النفوس المريضة من دون الحاجة إلى الإفصاح عن الشخصية الحقيقية، وبالتالي من دون مواجهة أي محاسبة قانونية أو أخلاقية.

من هنا أصدرت بعض البلدان توجيهات وأنظمة وقوانين في محاولة للتقليل من تنامي تلك الآفات الأخلاقية والسلوكية، خصوصاً بعد أن أظهرت بعض الدراسات وجود علاقة بين أمراض تلك الاستعمالات للشبكات التواصلية النفسية والسلوكية وبين تحول ضحاياها، بعد حين، إلى شتى أنواع التطرف الديني والسياسي والعرقي.

ونتيجة لكل تلك الدراسات بدأت تعلو الأصوات الجادة القائلة بأنه آن أوان إجراء المراجعات العميقة لكل جوانب الاستعمالات التواصلية الاجتماعية لوضع ضوابط عالمية لهذا الحقل لا تقل في صرامتها والتزاماتها عن ما وضعه المجتمع الدولي مثلاً لحقوق الإنسان.

وكالعادة، ما إن تصاب حضارة الغرب بمرض اجتماعي وأخلاقي، من جراء تلك الفلسفة أو تلك التكنولوجيا، حتى يصل ذلك المرض إلى شواطئ مجتمعات العرب وغيرهم، ويبدأ في الانتشار السريع. والمطلوب، إن كنا جادّين في مواجهة مشاكلنا ضمن قدراتنا الذاتية، بدلاً من انتظار الفرج والتوجيه والعلاج من شواطئ الحضارة الغربية، أن نعي في الحال الأهمية القصوى لمواجهة الجوانب السلبية الكثيرة في ممارسة التواصل الاجتماعي الجمعي.

ومن أجل أن تكون مواجهة ذاتية تعالج هذا المرض في الأرض العربية، بخصوصياتها الاجتماعية والقانونية والأخلاقية، فإننا نتوجه إلى الجامعة العربية بدعوة نخبة من المختصين والمعنيين والمفكرين الملتزمين بوضع دراسة متكاملة عن هذا الموضوع، ليطرحوا حلولاً وحدوداً قانونية وقيمية للمجتمعات والشركات المالكة لوسائل التواصل الاجتماعي.

ونقترح أن تقدم الجامعة تلك الدراسة، مشفوعة باقتراحات منها أيضاً، إلى اجتماع يجمع في ما بين وزراء الإعلام والصحة والشؤون القانونية، مع حضور أعضاء اللجنة التي قامت بوضع الدراسة، وذلك من أجل تبنيها لتصبح موقفاً عربياً مشتركاً تجاه هذا الموضوع برمّته.

دعنا نكن صريحين: لن تقوم الشركات المالكة لوسائل التواصل الاجتماعي بخطوات جادة لتنظيم هذا الموضوع، وستكتفي بوضع شرط من هنا أو هناك، وذلك خوفاً على أرباحها من جهة، ورغبة في بقاء هيمناتها التنافسية من جهة أخرى. فلعل الجامعة العربية تسهم في منع انتشار هذا الوباء الجديد البالغ الخطورة في أرض العرب.