في كتابه المعنون «الأزمنة الجديدة المظلمة»، يشير المؤلف، جيمز بردِل، إلى ظاهرتين حدثتا إبان القرن الماضي بالغَتَي الدّلالة والتفسير لبعض ما يجري في أرضنا العربية.
الظاهرة الأولى، تتعلق بالتعامل الكاذب الاستعماري لما كان يجري من مذابح مرعبة في دولة رواندا الإفريقية، في منتصف عام 1994. فبالرغم من وجود سفارات دول أوروبية عدة، ومندوبي منظمات غير حكومية، ومراقبين لهيئة الأمم المتحدة في رواندا، وبالرغم من تصريحات جنونية على راديو الحكومة الرسمي، وهي تهدّد وتطالب بسحق وإنهاء وجود الخصوم، وجميعهم يؤكدون وجود مذابح مرعبة ودمار شامل يجريان يومياً، إلا أن نظام الحكم الأمريكي ظل يؤكد يوماً بعد يوم، طيلة مئة يوم من المذابح، أن وسائل المراقبة الجوية الأمريكية لا تسجل وجود مذابح، أو دمار كبير.
وظلت حكومات الولايات المتحدة الأمريكية تنكر أن لديها إثباتات بحدوث مذابح في رواندا، إلى أن جرت في عام 2012 محاكمة أحد المجرمين الروانديين، من الذين شاركوا في عمليات القتل والإبادة، عندما عرضت صور واضحة تفصيلية لكل الدمار والمذابح، صوراً أخذتها أقمار صناعية أمريكية إبّان المذابح، وأنكرت وجودها السلطات الأمريكية سنة بعد أخرى، وبضمير بارد، لا تهمّه القيم والأخلاق، وآلام الضحايا المساكين.
الظاهرة الثانية حدثت في البلقان عام 1995. هناك شاهدت الاستخبارات الأمريكية (السي آي إي)، المذبحة التي ذهب ضحيتها ثمانية آلاف مسلم، والتي جرت في مدينة سربرنيتسا، شاهدوها من مقرّهم في فينّا عبر الأقمار الصناعية الأمريكية. بعد عدة أيام ظهرت بواسطة قمر تجسّسي صور القبور الجماعية كشاهد على حدوث تلك المذابح، لكن تلك الصور لم تعرض على الرئيس الأمريكي آنذاك، بيل كلنتون، إلا بعد مرور شهور عدة.
في كلتا الحالتين، لم يكن الغائب قصور في تكنولوجيا التواصل المتقدمة للكشف عن مثل تلك الجرائم. الأمر المفقود كان الإرادة السياسية النزيهة، والضمير السياسي المرتبط بالقيم الإنسانية والأخلاقية.
نذكر تلك الظاهرتين المرتكبتين من قبل جهات أمريكية رسمية من أجل أهداف سياسية انتهازية بالغة السّوء، من أجل طرح هذا السؤال البديهي: ألا تجعلنا تلك الألاعيب الأمريكية نشكّ في الإصرار الأمريكي المستمر على عدم وجود دلائل لديهم، حتى الآن، على ارتكاب الجيوش الإسرائيلية مذابح وحشية بحق الفلسطينيين خلال الثمانية أشهر الماضية، بالرغم مما تقوله منظمات الحقوق الدولية والإنسانية، والعديد من جهات وشخصيات الأمم المتحدة، وما تظهره شبكات التواصل الاجتماعي من فظائع ومجازر ترتكبها القوى العسكرية والأمنية الإسرائيلية، وميليشيات المستوطنين، يومياً، بحق أطفال ونساء وشعب فلسطين، في غزة، وفي سائر مدن وقرى الضفّة الغربية؟ ألا تمارس الولايات المتحدة الأمريكية نفس الأكاذيب وتخفي الحقائق من أجل التغطية على جرائم حلفائها الإسرائيليين في فلسطين المحتلة؟
والاستنتاج البالغ الأهمية أيضاً، هو تبيّن عدم دقّة تنبّؤ أساطين وشركات التواصل الاجتماعي بأن انتشار المعلومات وجهات مراقبتها سيقلّل من ارتكاب فظائع الصراعات والحروب. فأمريكا ومعها كُثر، كانوا على علم بما يجري في رواندا والبلقان، وما يجري حالياً في غزة، وكل أرجاء فلسطين، ومع ذلك، فإن ألاعيب السياسة والاقتصاد هي التي تحكم ردود الفعل تجاه ما جرى، وما يجري، وليس توفر وكثرة المعلومات عند مختلف الجهات المراقبة. فالغرب الاستعماري الذي يتعامل مع الكثير من القضايا بوجهين، لن يهمّه توفر أو عدم توفر المعلومات، وإنما مصالحه، وانحيازاته ومكاسبه.
نسترجع كل ذلك، ونؤكد أهمية استيعاب ما يجري في مسيرة الحياة السياسية العربية المشتركة، بعد أن لاحظنا بداية تحول في خطاب مؤتمر القمة العربي الأخير، وبعض توجهاته نحو التعامل الأكثر توازناً مع قوى العالم، ونحو محاولة التصرف السياسي والاقتصادي خارج الهيمنة الأمريكية، وإملاءاتها السابقة. لعل العرب بدأوا، بالفعل، يتعرفون بعمق وصدق، إلى الأوجه القبيحة المخادعة المدمرة في التعامل الأمريكي مع المصالح والحقوق العربية، في شتّى بقاع الوطن العربي.
التعليقات