وصفت في مقال سابق الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بأنها (انتقامية) فقد شنتها إسرائيل رداً على عملية (طوفان الأقصى) التي شنتها حماس ضد المستعمرات الاستيطانية اليهودية المجاورة لقطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، والتي أدت إلى قتل وأسر بعض المستوطنين.

أتناول في عجالة هنا موقف القانون الدولي من الحرب أو الأعمال الانتقامية فأبدأ بالإشارة إلى أن فقه القانون الدولي يفرق بين (التدابير أو الإجراءات المضادة Counter Measures) ، والانتقام (Reprisal) فالتدابير المضادة هي الإجراءات السلمية غير المصحوبة باستعمال القوة العسكرية والتي تتخذها دولة ضد دولة أخرى بسبب فعل غير مشروع صادر من هذه الأخيرة وألحق ضرراً بالدولة الأولى التي ردت باتخاذ التدابير المضادة. وقد عرفها بعض فقهاء القانون بتعاريف شتى منها (تدابير مخالفة للقانون الدولي تبررها انتهاكات القانون الدولي المرتكبة من الدولة الموجهة ضدها تلك التدابير).

كما عرَّفها البعض الآخر بأنها (تلك الإجراءات التي تشمل عدم تنفيذ التزام دولي تجاه دولة قامت ابتداءً بانتهاك التزامها تجاه دولة أخرى)، ومعظم التدابير المضادة تكون دبلوماسية أو اقتصادية، مثل قطع أو تجميد العلاقات الدبلوماسية وحظر تصدير سلع معينة ولعل أشهر حظر اقتصادي في مجال الصراع العربي الإسرائيلي هو حظر الدول العربية المصدرة للبترول بقيادة السعودية تصدير البترول خلال حرب أكتوبر 1973 إلى الدول التي كانت تساند إسرائيل في هذه الحرب والتي شنتها مصر وسورية لاسترداد أراضيهما التي احتلتها إسرائيل في حرب 1967.

أما الانتقام فهو أعمال عسكرية تقع بين دولتين متحاربتين، وقد عرفه فقهاء القانون الدولي بتعريفات شتى فقال بعضهم أن الانتقام هو (أفعال تتخذ من قبل دولة ضد دولة أخرى بقصد إرغامها على الموافقة على تسوية النزاع الذي كانت هي سبباً في نشوئه باقترافها جريمة دولية). وقال البعض الآخر بأنها (أفعال قسرية منافية للقانون تتخذ رداً على أفعال مماثلة منافية للقانون).

والأعمال الانتقامية لا يجيزها القانون الدولي وسبق أن أصدر مجلس الأمن عدة قرارات دان فيها الأعمال الانتقامية واعتبرها مخالفة للقانون الدولي. نذكر منها ما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي القرار رقم 262 الصادر سنة 1968 والذي دان فيه مجلس الأمن الدولي الهجوم الذي شنته إسرائيل على مطار بيروت الدولي في 29 ديسمبر 1968 وتدميرها بعض الطائرات اللبنانية كعمل انتقامي رداً على مهاجمة فدائيين من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لطائرة إسرائيلية في مطار أثينا وتدميرها، واعتبر مجلس الأمن تصرف إسرائيل مخالفاً لالتزاماتها المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة. ونوجز ما سبق أن الأعمال الانتقامية التي تنفذ بالقوة المسلحة لا تعتبر مشروعة لأنها غير متفقة مع قواعد القانون الدولي المعاصر والتي توجب حل المنازعات الدولية بالطرق السليمة وحظر استخدام القوة إلا في حالات استثنائية محددة أهمها حالات الدفاع الشرعي الفردي والجماعي عن النفس والكفاح المسلح للشعوب من أجل تقرير المصير والتخلص من الاحتلال الأجنبي.

بناء على ما سبق فإن التصنيف القانوني للحرب الإسرائيلية الحالية على قطاع غزة هي حرب انتقامية ولا يمكن تبريرها بأنها دفاع عن النفس. فالقانون الدولي يشترط شروطاً محددة لاستعمال حق الدفاع الشرعي عن النفس منها أن تكون القوة المبذولة لرد الاعتداء مناسبة مع هذا الاعتداء وفي حدود القدر الضروري لرده وإيقافه أي يجب أن يتحقق التناسب بين فعل العدوان وأفعال الدفاع.

وقد أكدت محكمة العدل الدولية هذا الشرط في بعض أحكامها ومنها حكمها الصادر في قضية نيكاراجوا ضد الولايات المتحدة عام 1986 فقالت إن الضرورة والتناسب قيدان على الدفاع الشرعي عن النفس فردياً كان أم جماعياً ومؤدى هذا الشرط استبعاد أعمال الانتقام من دائرة الدفاع المشروع.

وترتيباً على ذلك فان الحرب الإسرائيلية على غزة هي من قبيل أعمال الانتقام، إذ لا يوجد البتة أي تناسب بين الهجوم الفلسطيني في 7 أكتوبر 2023 والعمليات العسكرية الإسرائيلية الواسعة النطاق التي تتسم باستخدام مفرط للقوة العسكرية وترتب عليه قتل عشوائي مستمر للسكان المدنيين منهم أعداد كثيرة من الأطفال والنساء وتدمير البنية التحتية الأساسية والمرافق الحيوية لقطاع غزة وارتكاب أفعال تشكل جرائم حرب وجرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية وانتهاكاً صارخاً لحق الإنسان الأساسية أولها وأهمها حقه في الحياة. يضاف إلى ما تقدم إن استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والحصار المفروض على غزة منذ عام 2007 جعل الفلسطينيين في حالة دفاع عن النفس في مواجهة إسرائيل لأنهم يسعون إلى إنهاء الاحتلال والحصار وممارسة حقهم في تقرير المصير وإقامة دولتهم المستقلة على ترابهم الوطني.

وإذا كانت مقاومة الاحتلال الأجنبي حق مشروع لا مراء فيه للشعب الرازخ تحت الاحتلال فإن كيفية ممارسة هذا الحق يجب أن تكون وفقاً لرؤية وخطة إستراتيجية محكمة تقدر مدى وكيفية رد فعل العدو في ضوء سوابقه وفي ضوء الأوضاع السياسية المحلية والدولية السائدة.. والواقع يدل على أن حماس عندما قرَّرت شن عملية (طوفان الأقصى) لم تقدر تقديراً دقيقاً رد الفعل الإسرائيلي ولم تقدر انه قد يكون انتقاماً وحشياً ليس له مثيل من قبل وكان هذا خطأ فادحاً نتج عنه كارثة كبرى سيعاني أهل غزة من آثارها زمناً طويلاً.

ولعل من المناسب أن نختم هذه المقالة بالإشارة في عجالة إلى أبرز خسائر وأضرار هذه الحرب ومنافعها وفوائدها وذلك على النحو التالي:

أولاً: الأضرار والخسائر:

1 - تدمير قطاع غزة تدميراً شبه كامل لم يبق ولم يذر من المنشآت والمرافق الحيوية شيئاً يذكر.

2 - بلغ عدد الشهداء حتى الآن أكثر من 40 ألف فلسطيني وإصابة أكثر من 30 ألف بإصابات متنوعة، نتج عن بعضها الإعاقة المستديمة وتفاقمت المآسي الإنسانية لسكان غزة على نحو غير مسبوق ويحزن كل من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

3 - فقدان المقاومة الفلسطينية عنفوان فعاليتها القتالية وربما تحتاج إلى وقت طويل جدا حتى تعود إلى سابق مستواها، هذا إذا سمحت الأوضاع الدولية المستجدة بذلك. في مقابل ذلك أصيبت إسرائيل بخسائر مالية واقتصادية كبيرة وخسائر بشرية غير مسبوقة في حروبها السابقة على غزة.

4 - إعادة الاحتلال الإسرائيلي البغيض إلى قطاع غزة ولا يعلم إلا الله متى يمكن أن تتحرر غزة من هذا الاحتلال وكيف ستدار غزة بعد انتهاء الحرب.

ثانياً : المنافع والفوائد:

هذه المنافع والفوائد نتجت جراء رد الفعل الإسرائيلي الموغل في الانتقام والإجرام والتوحش، وهي:

1 - انكشاف إسرائيل كدولة عنصرية استعمارية متوحشة أمام العالم.

2 - تزايد المطالبات الدولية بإنشاء دولة فلسطينية في المناطق المحتلة عام 1967، كوسيلة لإقامة السلام وإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني. ومن المناسب هنا التنويه بالجهود التي بذلتها وتبذلها الدبلوماسية السعودية بتوجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان في سبيل تهيئة الظروف الدولية لإقامة الدولة الفلسطينية.

3 - ظهور إسرائيل أمام المجتمع الدولي برمته كدولة مارقة لا تعبأ بالقانون الدولي وتزدري هيئة الأمم المتحدة وظهر ذلك جلياً في تمزيق مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة ميثاق هذه المنظمة أمام جمعيتها العامة على إثر إصدارها توصية لمجلس الأمن بقبول فلسطين كعضو كامل العضوية في هذه المنظمة التي لها فضل كبير على إسرائيل فهي التي منحت (الشرعية الدولية) لتأسيس إسرائيل بالقرار الجائر بحق الفلسطينيين الذي أصدرته جمعيتها العامة عام 1947 بشأن تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، ولولا هذا القرار لما كان يمكن أن يحظى إنشاء إسرائيل بقبول المجتمع الدولي.

4 - تنامي الوعي العالمي خاصة بين شباب الجامعات في أمريكا وأوروبا بحقائق القضية الفلسطينية ومطالبتهم بوقف الحرب وإنهاء علاقات التعاون العلمي والبحثي والاستثمار بين جامعاتهم وإسرائيل.

5 - لم تعد لتهمة (معاداة السامية) تأثيرها السابق في ردع انتقاد سياسات إسرائيل التوسعية وممارساتها العنصرية وازداد الوعي بالتفرقة بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية.

6 - بفضل دعوى جنوب إفريقيا مثول إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية لأول مرة بتهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في غزة.

ختاماً إن تعجب فعجب من تهوين بعض قادة حماس من فداحة الكارثة الثقيلة المروعة التي حلت بأهل غزة فاستشهدوا بالآية الكريمة {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ}، وفي تقديري لا تنطبق هذه الآية على حال طرفي الصراع لأن الألم الفلسطيني والألم الإسرائيلي لا يستويان، فالألم الفلسطيني مبرح وعظيم أشبه بألم السرطان والألم الإسرائيلي خفيف محتمل أشبه بألم الصداع.

{مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}!!