قرابة ثمانية أشهر انفرطت، منذ بدء الهجوم الإسرائيلي على قطاع عزة، رداً على عملية «طوفان الأقصى» التي أطلقتها حركة حماس، ولم تقف شهية جيش الاحتلال عن قتل المدنيين، وشن حرب إبادة شاملة على القطاع عند حد. وقد أعلنت حكومة الاحتلال على لسان عدد من مسؤوليها، وعلى رأسهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، أن هدف الحرب على القطاع هو القضاء على قدرات حركة حماس، وتجريدها من السلاح، وتصفية قادتها.
ورغم مرور ثمانية أشهر على هذه الحرب، فإن الاحتلال لم يحقق أياً من أهدافها المعلنة، بل إن السلوك الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين دفع إلى دخول أطراف أخرى فيها. فالحرب التي أريد لها أن تقتصر على القطاع، انتشرت لتشمل، منطقة الجليل الأعلى، شمال إسرائيل، ولتتسبب في نزوح أكثر من 250 ألفاً من الإسرائيليين، من أماكن سكنهم، ولتتحول مستوطنة كريات شمونة إلى خراب وأطلال. ولتضع الحكومة الإسرائيلية في حيرة من أمرها. فالولايات المتحدة، تضغط بقوة على ربيبتها، مطالبة بعدم توسيع نطاق الحرب.
والإسرائيليون، لا تزال ذاكرتهم تحتفظ جيداً بما جرى في حرب تموز/ يوليو 2006، حين تم أسر ثلاثة الجنود الإسرائيليين، اقتربوا من الحدود اللبنانية، وشنت إسرائيل حربها، بذريعة العمل على إطلاق سراح الأسرى، وانتهت تلك الحرب، بهزيمة اعترف بها قادة الجيش الإسرائيلي، تحطمت خلالها أسطورة دبابة «الميركافا»، التي تباهت بها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، حيث تم تدمير العشرات منها، والاستيلاء على عدد منها، تم عرضها لاحقاً في أجهزة الإعلام.
أما الأطراف الأخرى، التي دخلت الحرب، دعماً للمقاومة الفلسطينية، والتي ترسل المسيرات والصواريخ يومياً للأراضي الإسرائيلية، فإن المعضلة معها أكبر، فهي لا ترتبط بحدود مباشرة، مع إسرائيل، وإنما تكتفي بالهجوم عن بعد بالمسيرات والصواريخ البالستية، وتعترضها القبة الحديدية، كما تشير البيانات الصادرة عن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية. لكن ذلك لا يغيب حقيقة الكلفة الباهظة التي تدفعها إسرائيل لصد تلك الهجمات. فالمسيرات التي لا تكلف قيمة الواحدة منها، بضع مئات من الدولارات، يتطلب صدها في معظم الأحيان، أسلحة تكلف ملايين الدولارات. بمعنى أن الحرب، لم تعد في المجال العسكري فقط، بل باتت حرباً اقتصادية لا تميل كفتها لصالح إسرائيل.
صحيح أن قطاع غزة، قدم أكثر من خمسة وثلاثين ألف شهيد، معظمهم من المدنيين، وكثير منهم من النساء والأطفال، وقرابة تسعين ألف جريح، وصحيح أيضاً، أن جيش الاحتلال أحدث تدميراً مهولاً في البنية التحتية، شملت معظم القطاعات الخدمية، ومن بينها القطاع الصحي، والتعليمي، ومصادر الطاقة، من كهرباء وماء، لكنه لم يتمكن حتى هذه اللحظة من تحقيق أهدافه. وفي هذا السياق، يقدر بعض الاستراتيجيين الإسرائيليين، أن الحرب على قطاع غزة، لن تحقق أهداف حكومة نتنياهو حتى لو استمرت سبع سنوات.
وإذا ما أردنا أن نقدم جردة مختصرة، لحصيلة الحرب على غزة، سنجد أن معظمها يصب لصالح الفلسطينيين والقضية الفلسطينية. فلأول مرة، في تاريخ الصراع، يتعرف العالم بأسره، إلى جوهر القضية الفلسطينية، وتكون حاضرة في المحافل الدولية، وتصبح جرائم الاحتلال الشغل الشاغل لمحكمة العدل الدولية، ويهدد رئيس الحكومة الإسرائيلية، بإلقاء القبض عليه، من قبل محكمة الجنايات الدولية.
إن المسيرات اليومية، التي تشهدها العواصم والمدن الأوروبية والمدن الأمريكية، بما فيها العاصمة واشنطن، تنديداً بالعدوان، تشكل إدانة واضحة وصريحة لممارسات الاحتلال، وتكشف عنه قناع الديمقراطية، الذي تلفع به طويلاً، ليصبح نظام فصل عنصرياً، يرفضه القانون الدولي، ومبادئ الأمم المتحدة. وقد أشرنا في مقال سابق، إلى حجم التظاهرات الطلابية التي عمت مدن العالم، والتي لم يسبق لها مثيل، حتى إبان الحرب التي شنتها الولايات المتحدة، في حقبتي الخمسينات والستينات، بالهند الصينية، والتي شملت فياتنام ولاوس وكمبوديا.
وإذا ما عدنا إلى الهدف الرئيسي المعلن من الحرب، وهو تقليص قدرات حركات المقاومة، فإن ما يجري على الأرض، يثبت عقم محاولات جيش الاحتلال، وعجزه الفاضح، عن تحقيق أي من أهدافه. ويكفي في هذا السياق، التذكير بالهجوم الصاروخي الكبير، الذي شنته حركات المقاومة، في الأيام الأخيرة، على قلب تل أبيب، والضربات شبه اليومية، على المناطق الواقعة في غلاف غزة.
ليس ذلك فحسب، فقد واجه جيش الاحتلال، ولا يزال، مقاومة ضارية في مخيم جباليا، وفي رفح، بل إنه يمكن الجزم، بأن جيش الاحتلال، لم يتعرض لخسائر بشرية، في كل الحروب العربية-الإسرائيلية، منذ نكبة عام 1948، واستمراراً بالعدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وحتى نكسة حزيران/ يونيو عام 1967، التي تمكن خلالها من احتلال سيناء بأكملها، ومرتفعات الجولان والضفة الغربية، ومدينة القدس الشرقية، لم يواجه خلالها بالخسائر والكلف التي دفعها في الثمانية أشهر المنصرمة.
إن تحقيق وقف إطلاق نار مستدام في قطاع غزة، وإنهاء الاحتلال والاعتراف بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة، فوق ترابهم الوطني، هو السبيل الوحيد المتاح أمام حكومة نتنياهو، وهو الحل المتسق، مع شرعة الأمم وميثاق الأمم المتحدة، وحق الشعوب في تقرير المصير.
التعليقات