فرضت الولايات المتحدة هيمنتها «الرقمية» من خلال مشروعها «وادي السيليكون» في خليج سان فرانسيسكو الذي جمّع كل الشركات المطوّرة لتكنولوجيات الذكاء الاصطناعي، وفي إطار المنافسة أطلقت الصين مشروعها الخاص مبادرة الطريق والحزام، وضمنه أطلقت منذ سنوات قليلة مشروعها الرقمي الذي سمته «طريق الحرير الرقمي».
عند الحديث عن طريق الحرير الجديد، لا بدّ من العودة إلى سنة 2013 عندما أعلنت الصين خلال مؤتمر للجنة المركزية للحزب الشيوعي عن خطوة الانفتاح الجديدة على العالم والتي ستتخذ فيما بعد تسمية طريق الحرير. ثم تسارعت الخطوات ليتم في العام 2014 الإعلان عن خطة طريق الحرير للقرن الحادي والعشرين، وتم عرضها على تجمعات إقليمية آسيوية مثل قمة الآسيان والصين ثم على قمة التعاون مع دول أمريكا اللاتينية ثم على مؤتمر القمة الإفريقية الصينية، وبعدها على مؤتمر القمة العربية الصينية. وهكذا نجد أن الصين قد قامت بمشاركة كل التجمعات الإقليمية في مخططها لإحياء طريق الحرير، وتم الإعلان الرسمي في العام 2015 ثم طرحت المبادرة على مجلس الأمن الدولي لتحظى بالموافقة في القرار 2344 في مارس (آذار) من العام 2017. وقد كان المؤتمر الأول لمنتدى الحزام والطريق في شهر مايو (أيار)2017. وتبنّى الحزب الشيوعي الصيني المشروع في نوفمبر(تشرين الثاني) من ذات السنة، وهكذا أصبحت الصين دولة منفتحة اقتصادياً وتجارياً على كل العالم خاصة بعد إدراج عملتها «اليوان» كعملة رسمية في التبادل التجاري العالمي تنتمي إلى سلة حق السحب الخاصة منذ العام 2016 في صندوق النقد الدولي، مثلها مثل الدولار واليورو والين الياباني والجنيه الاسترليني.
قد يتبادر إلى الذهن أنّ مشروع الطريق والحزام الذي دشنته الصين للعودة إلى الساحة العالمية كإمبراطورية عظمى إنما يقتصر على طريق تقليدي واحد هو الطريق التجاري، والحال أنّ المشروع هو مجموعة طرق تمثل شبكة النفوذ التجاري والاقتصادي والمالي والتكنولوجي. فعلى سبيل المثال يتكون الطريق الحرير البري من ستة ممرات اقتصادية إلى جانب ممرين بحريين، وتربط هذه الممرات قارات آسيا وإفريقيا وأوروبا. لكن أغلب هذه الممرات الاقتصادية تربط الصين بدول الجوار الآسيوية، حيث مدت الصين شبكات الطرقات والسكك الحديدية نحو الغرب والجنوب والشمال وكأنها تبني شبكة شبيهة ببيت العنكبوت بحيث يقع التوسع التدريجي من النواة (الصين) إلى الأطراف)، وتكبر الشبكة كلما دعت الحاجة إلى ذلك وكلما تمكنت الصين من تعزيز نفوذها في محيطها.
وهناك طريق الحرير البحري الذي يتكون من مسارين اثنين، الأول يربط الصين بالمحيط الهندي وبحر العرب والبحر الأحمر وصولاً إلى البحر الأبيض المتوسط وهو المسار التاريخي لطريق الحرير القديم. والطريق الثاني يربط موانئ الصين بجنوب المحيط الهادي. وأضافت الصين في العام 2018 طريقاً بحرياً في الشمال هو الطريق القطبي الذي يختزل طريق الشحن إلى عشرين يوماً فقط من الصين إلى قلب أوروبا. وعين الصين هنا على ثروات القطب الشمالي.
وهناك أيضاً طريق الغاز والنفط، ومشروع «عقد اللؤلؤ» وهو ينخرط في ما يسمى «حرب الموانئ» والتي ترى فيه الصين مصدر هيمنة وفرض قوة على الأرض على طول السواحل من الصين إلى البندقية في قلب المتوسط. وهنا يمكن أن تكون تونس مستقبلاً ضمن هذه الخريطة بموانئها وموقعها الجيواستراتيجي.
ويأتي مشروع طريق الحرير الرقمي الذي بدأت فكرته في العام 2015، ولكن اتخذ مساراً متسارعاً في العام 2017 حينما سلط منتدى الحزام والطريق الضوء على طريق الحرير الرقمي عندما تعهد المشاركون بتقديم الدعم لخطط الابتكار والتجارة الإلكترونية، وإنشاء شبكة متطورة من البنية التحتية الرقمية لتسهيل ربط الصين بالعالم الخارجي. ويهدف المشروع إلى مساعدة الدول على تطوير بنيتها الرقمية، وقد ازدهرت التجارة الرقمية الصينية في السنوات الأخيرة، حيث كشفت بيانات صادرة عن الأكاديمية الصينية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات أن حجم الاقتصاد الرقمي الصيني ارتفع إلى 4.1 تريليون دولار أمريكي، بمتوسط معدل نمو مركب سنوي يبلغ 14.2 في المئة من عام 2016 إلى عام 2022. وعلينا القول هنا إن شركة «هواوي» هي التي تقود ثورة شبكات الجيل الخامس في العالم وتخضع لعقوبات من طرف الدول الغربية على خلفية تفوقها التكنولوجي، وتعتبر قاطرة مشروع طريق الحرير الرقمي.
وقد وقّعت الصين اتفاقيات مع 16 دولة في إطار طريق الحرير الرقمي. وتشير الإحصائيات الصينية إلى أن كل الدول التي انخرطت في المشروع قفزت فيها نسب التشغيل في القطاعات الرقمية بطريقة كبيرة جداً ما دفع الصين إلى تعزيز قطاعات الانترنيت وبرامج الذكاء الصناعي في كل القطاعات الإنتاجية وتكنولوجيات الفضاء والمدن الذكية والاقتصاد الرقمي والطاقات البديلة، وهذا الطريق الجديد سيشكل فرصة ازدهار كبيرة لكثير من الدول العربية إن استثمرت في العلوم والتكنولوجيا.
التعليقات