يُعذر الشعب الأمريكي الطيّب المملوء قلبه بالتعاطف الإنساني مع المظلومين، أو المهمّشين، أو الفقراء، الكثير ممّن ينتقدون بشدّة سياسات ومواقف وسلوكات نظام الحكم الأمريكي، وعلى الأخص دولته العميقة الرأسمالية العسكرية.

فنحن الذين درسنا وتدرّبنا في جامعات أمريكا على يد أروع الأساتذة والعلماء، ونحن الذين صادقنا أروع النفوس، وزرناهم في بيوتهم، وكانت لنا معهم أجمل الذكريات، لم نجد في الإنسان الأمريكي العادي إلا طيبة القلب، وعفوية الضمير الإنساني البسيط، وقيم الرغبة في التعاضد الإنساني، مع إخوانهم من سائر البشر.

لكن أمريكا الطمع والجشع غير المحدود، أمريكا التدخّل في شؤون غيرها تحت راية مصلحتها الوطنية، ومن دون أي اعتبار لمصالح الآخرين وحقوقهم، وأمريكا الحروب المبيدة التي لا تتوقف ولا يحدّها خلق، أو تمنعها قيمة حقوقية إنسانية، أو ضمير مستيقظ.. أمريكا تلك، هي غير أمريكا شعبها. إنها، في كثير من الأحيان، وبعكس شعبها ذاك، كانت ولا تزال تمثل أكبر مصدر للتصرفات المجنونة، وعلى الأخص بالنسبة إلى قضايا، وحقوق، وسكينة، وأمن أمتنا العربية، ووطننا العربي، مع أنها تفاخر بأنها مجتمع التسامح، والتعايش، والذراع المفتوحة لكل ملهوف ومظلوم.

نقول كل ذلك، بأسف، وبحسرة، وبشعور اليأس من البلد الذي كان في الماضي عزيزاً، ومحترماً للملايين منا إبّان فترات شبابنا التي انخدعت، وخُدعت، يوم كنا نقرأ تاريخ أمريكا فننبهر، ونسمع خطابات سياسيّيها الجميلة فنصدّق.

مؤخراً، ما إن انتهينا من رؤية الدعم الأمريكي التام لإسرائيل بالسلاح في حرب غزة، ما إن رأينا أمريكا وهي تضع ضرائب شعبها في يد مسؤولي إسرائيل، لتعينهم وتسهل قيامهم بحرب إبادة مدمرة في قطاع غزة، حتى فوجئنا بالقرار اللاإنساني الذي قررته الأغلبية الساحقة من أعضاء الكونغرس الأمريكي، بدعوة بنيامين نتنياهو المطلوب للمثول أمام محكمة الجنايات الدولية، ومنظمة العدل الدولية لمحاسبته على ما فعلته، وتفعله، كل مؤسسات الأمن الإسرائيلية من جرائم إبادة بحق مدنيين فلسطينيين أبرياء، وهو المطلوب أيضاً من قبل محاكم في إسرائيل نفسها.

إن دعوة نتنياهو ليلقي خطاباً علنياً، ويحظى بتصفيق حار أمام أعضاء الكونغرس،هو خطاب لن يكون إلا مجرد تلاعب بالألفاظ لتبرير ما تفعله إسرائيل طيلة ثمانية شهور من أفعال يندى لها جبين الإنسانية، وتستهجنها ملايين البشر يومياً في شوارع كبريات المدن العالمية. وبالطبع لن تخجل وسائل الإعلام المنحازة من نشر الخطاب في كل أرجاء العالم.

من حقنا أن نسأل: هل حقاً أن هذه الدعوة لا تتناقض مع كل الأسس الحقوقية، والأخلاقية، والقيمية، التي عملت على وضعها مؤسسات هيئة الأمم المتحدة طيلة العقود الماضية؟ بل ألا تتناقض مع كل حرف قيمي، وأخلاقي، وديمقراطي جاء في الدستور الأمريكي؟ هل حقاً أن أروع مفكري وحقوقيي العالم من اليهود، من أمثال نعوم تشومسكي، وبيرني ساندرز عضو مجلس الشيوخ الأمريكي، والفيلسوفة نعومي كلاين، وكثيراً غيرهم، لن يشعروا بالإحراج والخجل يوم يقف بنيامين نتنياهو ليُنصّب نفسه مدافعاً عن المجازر التي ترتكب بحق الفلسطينيين، وهم الذين يقفون في مقدمة المدافعين عن كل مظلوم في العالم كله؟

ثم، هل وصلت سيطرة اللوبي اليهودي في واشنطن على نظام الحكم الأمريكي برمّته، بمؤسساته وأشخاصه، وساحات خطاباته، بحيث يتجرّأ الكونغرس على اتخاذ مثل هذه الخطوة، التي سيثار من حولها ألف سؤال في أمريكا، وفي العالم كله؟

حقاً، أننا بتنا نعيش في عالم مريض، ومُحقّون هم الذين يتحدثون ويكتبون في الغرب بأن مجتمعاتهم، مجتمعات النهضة، والأنوار، والتقدم، والعقلانية، قد تراجعت لتصبح مجتمعات الظلام الجديدة.