جرت، قبل أيام، انتخابات تجديد عضوية البرلمان الأوروبي البالغ عدد أعضائه 270 منتخباً، في أكثر من 20 دولة، بمشاركة نحو 400 مليون ناخب. وهي مناسبة سياسية مهمة، تحظى باهتمام الرأي العام الأوروبي، والدولي، اعتباراً لأن الأمر يتعلق بتكتل إقليمي وازن، هو الاتحاد الأوروبي، وللمكانة الوازنة التي يحظى بها البرلمان الأوربي ضمن الأجهزة الرئيسية للاتحاد، باعتباره آلية لصناعة التشريعات والسياسات التي تهم واقع، ومستقبل هذا التكتل الواعد.

وتمر هذه الاستحقاقات التي تجري كل خمس سنوات، في ظرفية لا تخلو من صعوبات، وتحدّيات، بالنظر إلى ما خلفته الحرب الروسية في أوكرانيا من تبعات اقتصادية، وسياسية، واجتماعية، وتصاعد الجرائم الوحشية التي ترتكبها سلطات الاحتلال الإسرائيلي في غزة، إضافة إلى المكتسبات السياسية التي حققتها التيارات اليمينية المتطرفة في عدد من البلدان الأوروبية، كما هو الشأن بالنسبة إلى ألمانيا، وفرنسا، وهولندا، وبلجيكا، وبولونيا، وإسبانيا. كما تتزامن أيضاً مع الاحتجاجات التي قادها المزارعون على امتداد عدد من البلدان الأوروبية، كردّ فعل على تبنّي الاتحاد لسياسات فلاحية إيكولوجية خلفت أضراراً مختلفة.

تمحورت الحملات الانتخابية لمجمل هذه التيارات حول قضايا الهجرة، والإشكالات الأمنية الناجمة عن تطور الوضع في أوكرانيا، وعن تمدد نشاط الجماعات الإرهابية، ثم المعضلات الاجتماعية المتصلة بارتفاع أسعار المواد الأساسية، ومصادر الطاقة؛ في مقابل تراجع القدرة الشرائية لعدد من المواطنين داخل القارة.

ورغم اختلاف النتائج المتحصل عليها في هذه الانتخابات بين مختلف التيارات والأحزاب الأوروبية، إلا أن الأرقام الواردة في عمومها تشير إلى أن التيارات اليمينية المتطرفة حققت تقدماً كبيراً، خصوصاً في فرنسا وألمانيا، في مقابل التراجع الملحوظ لعدد من القوى السياسية الأخرى كاليسار والليبراليين والخضر، وهو ما تعكسه الأرقام في هذا الخصوص من إيطاليا، والنمسا، وألمانيا. وتمكن اليمين المتطرف في فرنسا التي تحتل مكانة مهمة داخل مؤسسات الاتحاد، من تحقيق فوز غير مسبوق في هذه الانتخابات، متجاوزاً بذلك الأغلبية الحكومية بنسبة كبيرة، ما دفع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى الإعلان عن حلّ الجمعية الوطنية، وإجراء انتخابات تشريعية جديدة، أواخر الشهر الجاري.

إن تقدم اليمين جاء في سياق معطيات داخلية، وأخرى خارجية، فقد تزايدت العوامل المغذية للهجرة نحو أوروبا بسبب الإشكالات السياسية، والاجتماعية، والأمنية، التي تعيشها الكثير من البلدان الإفريقية. كما يمكن تفسير هذا الصعود بأنه ردّة فعل للناخب الأوروبي إزاء النخب والأحزاب التقليدية التي لم تقدم أجوبة شافية عن مختلف الأسئلة التي بات يطرحها المواطن الأوروبي في زمن العولمة، التي خلفت الكثير من المشكلات والأزمات المالية، والاقتصادية، والثقافية، والتي عرّفت عنها بعض المحطات التي مرّت بها دول القارة، كالأزمة المالية (2007-2008)، وجائحة كورونا التي كشفت في بعض مظاهرها، ضعف التضامن بين دول القارة. كما أن الأمر هو بمثابة تعبير عن رفض الكلفة المالية والاقتصادية للتضامن الأوروبي مع أوكرانيا في حربها الجارية مع روسيا.

لا شك في أن هذه النتائج ستكون لها انعكاساتها وتأثيراتها في مستقبل سياسات الاتحاد، وستمثل تحدياً حقيقياً يضاف إلى ما خلّفه خروج بريطانيا من الاتحاد في هذا الصدد، وإلغاء للمكتسبات التي تحققت بين الدول الأعضاء على امتداد أكثر من نصف قرن، خصوصاً إذا استحضرنا التوجهات الكبرى لهذه التيارات التي لا تخلو في بعض جوانبها، من تشدّد، وشعبوية، وتشكيك في أهمية الاتحاد.

فالكثير من هذه الأحزاب تتبنى توجهات قومية، ولا تخفي رغبتها في عدم تطوير وتقوية مؤسسات الاتحاد، وتردّدها في اعتماد مزيد من التدابير والإجراءات التي تعزز التنسيق والاندماج بين دوله، بخاصة في أعقاب الأزمات المالية، والاجتماعية، المتتالية التي لحقت بالقارة. ما قد يحبط التوجهات الرامية إلى تعزيز التعاون الأوروبي في المجال العسكري والأمني في أعقاب الانعكاسات التي خلفتها الحرب الروسية في أوكرانيا.

وجدير بالذكر أن لهذه التيارات مواقف معادية من قضايا الهجرة التي تستأثر باهتمام كبير ضمن خطاباتها، كسبيل لاستمالة الناخب الأوروبي عبر ربط كل المشكلات التي تمر بها دول القارة (أزمات مالية، تطرف، غلاء، وتراجع القدرة الشرائية..) بالمهاجرين، ضمن تنكّر تام للجوانب الحضارية للظاهرة، والتي أسهمت بشكل كبير في بناء وتطور القارة، ولأبعادها الإنسانية والقانونية، ما ستكون له حتماً انعكاسات على مستوى تنامي الخطابات المعادية تجاه المسلمين (الإسلاموفوبيا)، ونهج الاتحاد لسياسات متشددة عبر فرض مزيد من القيود القانونية، والسياسية، والأمنية، على المهاجرين، خصوصاً أن الكثير من هذه التيارات تتبنى خيار الانفتاح على المهاجرين القادمين من أوروبا الشرقية، في مقابل نهج تشديد الرقابة على الواجهة الجنوبية للقارة، أي أمام المهاجرين القادمين من إفريقيا، ومناطق أخرى.

أما في ما يتعلق بالموقف من القضية الفلسطينية بشكل عام، ومن الجرائم المرتكبة في القطاع، وما تلاها من تنديد ورفض دوليين، على وجه الخصوص، فلا يمكن التفاؤل كثيراً بصدد المواقف المنتظرة لهذه التيارات التي يبدو أنها ستستمر، كما سابقتها، في تقديم الدعم لإسرائيل، وفي مقابل ذلك يعتقد الكثير من الباحثين أن هذا الصعود، ستكون له تبعات في ما يتعلق بإمكانية وقف المساعدات الأوروبية نحو أوكرانيا.