عاش المفكر الروماني ميرتشيا إلياده (1907 - 1986) بين الحضارات والأديان والأسطورة، ويوصف بأنه مفكر الحنين إلى البدايات والأصول كما تقرأ ذلك في كتابه الرائع «البحث عن التاريخ والمعنى في الدين».

إلياده يكرّس في الكثير من كتاباته فكرة تاريخ الأديان، والشوق إلى فردوس يسميه «الأولاني». ويرى أن جوهر ما يسميه «المقدس» إنما يكمن في الزمن الأسطوري فقط، وخصّص في كتابه المذكور أعلاه ما يطلق عليه الخدعة الكبرى التي يعيشها الغرب.

أفكار غزيرة خصومية ومقارنة وتوليدية، إن أمكن القول، في كتابه المذكور أعلاه، غير أنني أتوقف هنا عند تحليله للثقافة الأمريكية الحديثة. وكيف يرى البلد الأكبر في العالم من وجهة نظر فكرية، بالطبع، وليست سياسية، سيما أنه عاش في فترة من حياته في أمريكا، وهو يقرأ هنا ولع الأمريكي بكل ما هو جديد، وأن مفهوم «الجدة» في الثقافة الأمريكية إنما يعود أيضاً إلى شكل من أشكال البحث عن فردوس «أولاني» هو الفردوس الأمريكي، كما يربط فكرة «الجدة»، ويمكن أن يطلق عليها «الجديدانية» مع قراءته لأسماء موصولة بما هو جديد، ويقول في «الجدة يتطلع المرء إلى ولادة ثانية، ويبحث عن حياة جديدة».

وينظر إلياده في هذه الأسماء: «نيوإنجلاند» و«نيويورك»، و«نيوهافن» ويقول: «هذه الأسماء كلها لا تعبر فقط عن حنين المرء إلى مسقط رأسه الذي خلفه وراءه، بل تعبر أيضاً وبشكل خاص عن الرجاء في أن تكون الحياة على هذه الأراضي الجديدة، وفي هذه المدن الجديدة، ذات آفاق جديدة». ويرى إلياده أيضاً أن الأمريكي مثلما هو مولع ب«الجديد» هو أيضاً مولع ب«الشباب»، ولذلك أخذ الأمريكي الذي هو نتاج ثقافة الصناعة أو التصنيع يبحث أكثر فأكثر عن براءته المفقودة في أبنائه.

جاءت أفكار إلياده هذه قبل أكثر من سبعين عاماً، وربما أن ما كان جديداً وبنى عليه مورخ الأديان فلسفته تلك قد أصبح اليوم قديماً، وربما أيضاً أن الأمريكي لم يعد اليوم رومانسياً إلى الحد الذي يجعله يبحث عن براءته المفقودة في أبنائه، ثم إن الأمريكي ثقافياً وتاريخياً ليس لديه الآن شغف الحنين إلى الفردوس و«الأولاني»، ذلك أنه أصلاً بلا فردوس. وتلك هي الحقيقة التي ربما كانت قد غابت عن إلياده الذي عرفه العرب منقولاً إلى لغتهم في مؤلفات عديدة تتصل بالأساطير بشكل خاص، منها «المقدس والدنيوي»، و«أسطورة العود الأبدي»، و«مظاهر الأسطورة»، و«الحنين إلى الأصول».