مع زخم الحياة والانفتاح على العالم تذاوبت الشخصية العربية وابتعدت عن ذاتها وعن هويتها فالهُوية هي الـ( هو. هو) أي الذي لا ينفصل عن ذاته كما ورد في المعجم. وللجزيرة العربية تلادة وولادة لمن يبحث أو يستقصي كما في هذه التأملات!

للكتابات نشاط ملتهب نحو ما هو أصل العرب؟ وكيف تكونت أممهم؟ وجل هذه الكتابات تدعي أنهم لا حضارة لهم ولا نسب، لأن منبع حضارتهم يطلق عليها الجاهلية الأولى والثانية، ومن هنا يكون ماضياً من الجهل والتخلف مروراً بما أسموه الجاهلية الأولى والثانية، فالأولى جاهلية قوم إبراهيم، والثانية جاهلية قوم محمد "صلى الله عليه وسلم"، وبما أنهم ردوا تسمية أو مصطلح الجاهلية إلى خروج الأنبياء العظام، فإذا الجاهلية هي جاهلية الدين وتعصبهم لدين آبائهم، وهؤلاء المستشرقون هم من ربطوا مصطلح الجاهلية إن كانت الأولى أو الثانية إلى إبراهيم عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم، دون أن يعترفوا بأنها جاهلية الدين فيما ذكر جواد علي في كتابه العرب قبل الإسلام.

بالرغم من هذا الربط، إلا أنهم يرونهم جاهليين لأنهم قوم رحل يتبعون منابع الماء والكلأ. والحقيقة أن من أصدر المفهوم الأخير هم جماعة المستشرقين.

فإننا إذا تساءلنا عن موطن ونشأة الحضارة بوجه عام في تاريخ البشرية، سنجد أنها نشأت ونبعت من الجزيرة العربية عامة ومن جنوبها الغربي بوجه خاص، ولم يكن ذلك سعياً وراء صناعة نسب وهمي كما ادعى بعض المستشرقين وإنما بالبحث العلمي والجهد والتقصي، فعن الكتب والدراسات العلمية، نجد كتاب شجرة الحضارة لـ(رالف لنتون) يقول: "لا نعلم متى صنع أول نول أو محراث وإنما نجزم أنه كان في الجنوب الغربي للجزيرة العربية فيما يقرب من خمسة آلاف قرن. ق. ت".

لكن جيمس فريزر، في كتابه (العهد القديم) متحدثاً عن الجنس البشري في العصور الأولى فيقول: "فقد كان هؤلاء الشيوخ جميعاً بدواً رعاة يتنقلون بقطعانهم من مكان لآخر بحثاً عن المرعى الخصب، ولم يكونوا قد ركنوا بعد لحياة الزراعة".

أما في كتب التراث، نجد أن ابن كثير في كتابه قصص الأنبياء يقول عن آدم عليه السلام: "إن الله عز وجل سكن في أرض "نود" في شرقي عدن فزرع وحصد وغزل من شعر الماعز لباساً له ولزوجته (صناعة، وزراعة).

يقول جواد علي في كتابه العرب قبل الإسلام: "اعتاد المؤرخون أن يسموا تأريخ العرب قبل الإسلام "التاريخ الجاهلي" أو "تاريخ الجاهلية" وأن يذهبوا إلى أن العرب كانت تغلب عليهم البداوة، وأنهم كانوا قد تخلفوا عمن حولهم في الحضارة، فعاش أكثرهم عيشة قبائل رحل، في جهل وغفلة، ولم تكن لهم صلات، بالعالم الخارجي، ولم يكن لهم تاريخ حافل، لذلك عرفت تلك الحقبة التي سبقت الإسلام بالجاهلية".

والحقيقة أن لفظ الجاهلية لم يأت إلا بعد ظهور الإسلام ورده القاموس المحيط إلى جهلهم بالإسلام، وهذا القول الراجح، لأن العرب قد فقهوا الكتابة والقراءة قبل الإسلام فقد كانوا يكتبون المعلقات، وفي بعض الأحيان تكتب بماء الذهب وتعلق على أستار الكعبة. فهل للبدو الرحل أن يكتبوا بماء الذهب معلقاتهم ويعلقوها على أستار الكعبة إن لم تكن لديهم حضارة وتاريخ وعلم بالقراءة والكتابة؟! ذلك ينتفي معه معنى الجهل، كما أن المتاحف العالمية تكتظ بالأحجار ذات النقوش والكتابة باللغة الجنوبية التي عجز العلماء عن فك رموزها.

كما أن سكناهم لم تكن الكهوف وممرات الجبال، فإذا كان مسكن آدم في هذه الأرض كما ذكرت كتب التراث والسير والمخطوطات، فإن أبناءه من عملوا بالعمارة وبناء المدن وبهندسة معمارية كما ذكر أبو الفوز محمد أمين البغدادي "السويدي" في كتابه سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب. ثم يقول: إن أول من خط بالقلم كان من أخنوخ ابن آدم: "هو أول من استخرج الحكمة وعلوم النجوم وعلوم الرياضيات والطبيعة، ولهذا كان يسمى بالمثلث، لأنه نبي وحكيم وولد نبي، وهو الذي رسم عمارة الأرض وجمع طلاب العلم وقرر لهم قواعد السياسة وعمارة المدن".

وقد ذكر ابن كثير والقرطبي وأبو الفوز أن عابر هو هود وأن أخنوخ هو إدريس عليهما السلام، كما ذكر ابن كثير في موضع آخر: "وكان أبناؤه من بعده ملوكاً عظاماً وشعباً يرتدون القلانس والنُعول، ويعزفون الموسيقى، كما أن النبي شيث بن آدم هو أول من لبس القلنسوة ولبس النعلين، وأن أول من صنع النحاس هو توبلقين بن لامك".

ولكن للمستشرقين ومن اعتنق آراءهم رأياً آخر. وتاريخ الحضارة له شأنه في هذا، فإن كانت الحضارة تؤرخ بإعمار المكان كما نهج المؤرخون فإن قبر آدم أبي البشر عليه السلام يقع في جبل أبو قبيس في مكة كما ذكر البغدادي، حيث يقول عن آدم عليه السلام: "هو أبو البشر وأول ما خلقه الله منهم، وقد اختلف العلماء في سبب تسميته هذا الاسم على قولين أحدهما لأنه خلق من أديم الأرض وهو وجهها، والثاني لأنه مشتق من أدمة وهي سمرة اللون. وهو اسم عربي وليس أعجمياً، وكنيته أبو محمد إظهاراً لشرف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ودفن في جبل أبو قبيس فلم يزل آدم في ذلك الغار حتى كان زمن الغرق، فاستخرجه نوح عليه السلام وحمله في تابوت معه في السفينة فلما خرج منها رده في مكانه.. وكانت وفاته يوم الجمعة في اليوم والساعة التي كان فيها خلقه.. وعاشت حواء بعده سنة واحدة ثم ماتت ودفنت مع زوجها وقيل دفنت بجدة".

كما نجد الخديوي عباس حلمي - خديوي مصر الثاني - يصف لنا في كتابه الرحلة الحجازية، قبر أم البشرية حواء في مدينة جدة بكل تفاصيله، حينما زاره في ذلك الحين - قبل أن يهدم.

أما أمة الجاهلية والموسومة بالجهل من قبل هؤلاء، فقد كان لديهم أول مجلة في التاريخ - كما ورد في كتاب العرب قبل الإسلام لجواد علي- فيقول: "إن عرب الجاهلية كانت عندهم (مجلة لقمان)، وفيها الحكمة والعلم والأمثلة، وإن الجماعة منهم كانوا قد قرؤوها، من جملتهم سويد بن الصامت وقد جمع الناس فيما بعد حكمته وأمثاله والقصص التي نسبت إليه، وهي تشبه حكايات أيسوب Aesop صاحب الأساطير والحكم والأمثال الموضوعة على لسان الحيوان عند الإغريق"، فهل نظرنا فينا؟ ذلك هو السؤال؟