بعد أسبوع من لعبة عضّ الأصابع التي أطلقتها الجولة الأولى من الانتخابات الفرنسية التشريعية، فعلها اليساريون والخضر الذين أوقفوا جحافل اليمين المتطرّف عند حدّها ليل 7 تموز (يوليو) بحسب نتائج الجولة الثانية. لم يبقَ لون من ألوان السخرية والتشكيك بقدرتهم على رصّ الصفوف في وجه "التجمع الوطني"، العنصري - الصهيوني، إلّا ورمى بها الإعلام الغربي تحالف الاشتراكيين والشيوعيين والراديكاليين اليساريين والخضر، في أعقاب الجولة الأولى. وفي الامتحان، نجح جان لوك ميلانشون زعيم "فرنسا الأبية" ورفاقه، وأدركت فرنسا أنهم قادرون على تخليصها من كابوس اليمين المتشدّد، فأعطتهم حصة الأسد من أصواتها. وفرنسا، الشريكة في صناعة هذا النصر، كانت قد منعت في السابق "التجمع الوطني" بقيادة مارين لوبّن و"الجبهة الوطنية" بزعامة والدها جان ماري لوبّن أربع مرّات من الوصول إلى الحكم، بعدما وقفا على عتبته.

في اليوم التالي، استيقظت البلاد على "فجر" جديد، حين تأكّد أن جبهة اليسار الموحّد قد حصدت 182 مقعداً، وحلّ تحالف "معاً" الليبرالي الذي ينتمي إليه الرئيس إيمانويل ماكرون ثانياً بـ 163 مقعداً، فيما احتل التجمع الوطني اليميني المركز الثالث بـ 143 مقعداً. وكُشف أن القوى المعارضة لحزب لوبن وحّدت صفوفها لصدّ هذا الخطر الذي كان يقرع باب السلطة بقوة قبل أيام. وانسحب 83 مرشحاً من كتلة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى جانب 132 آخرين تابعين لجبهة اليسار الموحّد، في محاولة ناجحة لمنع انقسام الأصوات المناوئة لمرشحي اليمين المتشدّد. ولا بدّ من أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مستاء للنتائج التي تؤكّد أن الناخبين نبذوا "التجمع الوطني" بزعامة حليفته مارين لوبّن.

هكذا، تخرج فرنسا عملياً من منطقة الخطر، وتصبح القوة النووية التي تتمتع بالعضوية الدائمة لمجلس الأمن، وصاحبة سابع اقتصاد في العالم من حيث الضخامة، وإحدى دول مجموعة السبع، الفاعلة في الاتحاد الأوروبي وفي حلف شمال الأطلسي (ناتو)، في مأمن من اليمين الراديكالي الذي كاد يمضي بها بعيداً في طريق الانعزال.

إلّا أن الجولة الثانية لم تستطع تهدئة القلق من شيوع الفوضى، وإن أبعدت شبح اليمين الشعبوي الذي أثارت الجولة الأولى في 30 حزيران (يونيو) الماضي احتمالات وصوله إلى سدّة الحكم. فقد تفوق حينذاك التجمع الوطني (33.3 في المئة) وتلته الجبهة الشعبية الجديدة اليسارية (28.6 في المئة) ثم تحالف ماكرون "معاً" (20.9 في المئة). وعلى الرغم من التحسن الكبير الذي تمخضت عنه الجولة الثانية، فإن أحداً لم ينجح فيها بالحصول على أغلبية مطلقة (289 مقعداً) في الجمعية الوطنية التي تضمّ 577 مقعداً.

وهذا يعني أن مقامرة الرئيس بالدعوة إلى انتخابات مبكرة، بعد هزيمته المنكرة في الانتخابات الأوروبية الأخيرة، لم تنته بعد نهاية سعيدة. لكن احتمالات الحل قائمة، وقد تساعد ماكرون في الخروج من عنق الزجاجة، كما جرى لبعض نظرائه ممن قاموا بمغامرات مماثلة لمعالجة ورطة مباغتة. مثلاً، احتكم بيدرو سانشيز، رئيس الوزراء الإسباني، في العام الماضي إلى الشعب في انتخابات مبكرة، فنجحت المحاولة وقطع الطريق على خصومه.

لكن، يبدو حتى الآن أن الزعيم الفرنسي استبدل باليمين المتطرّف الفوضى التي لا مناص منها في ظل "برلمان معلق"، ولا سيما أن التعايش بينه وبين اليسار المتهم بالتشدّد والشعبوية مستبعد بقوة. بكلمات أخرى، قد ينطبق عليه المثل القائل "من تحت الدلف لتحت المزراب". ويطالبه ميلانشون ولوبّن حالياً بالرحيل لأن دوره انتهى، في رأيهما.

بدأ المعلقون والسياسيون، سلفاً، باستبعاد تكليف ميلانشون تشكيل الحكومة، مع أنه زعيم الفريق الفائز بالعدد الأكبر من الأصوات، بحجة أنه "ديكتاتور" و"معادٍ للسامية". والتهمة الثانية هي السلاح الفتاك الذي يمتشقونه عادة ضدّ اليساريين المرشحين للظفر بالسلطة، كما فعلوا مع جيرمي كوربين في بريطانيا. اللافت أن التهمة ذاتها قلما وجّهت في الغرب إلى حزب لوبّن، مع أن جذوره ضاربة في النازية الجديدة، كما كان مؤسسه يجاهر بمعاداته للسامية!

والسؤال هو: هل يستطيع ماكرون تشكيل ائتلاف حكومي لا يضمّ ميلانشون؟ وكيف يمكنه أن يدير البلاد من دون التعاون مع زعيم المجموعة التي تحتل العدد الأكبر من المقاعد في الجمعية الوطنية؟

يبدو أن هذا غير مستحيل، من حيث المبدأ. فهناك سيناريو ممكن يتمثل في تشكيل الرئيس الفرنسي حكومة أقلية مع الجمهوريين الذين باتوا يحتلون 68 مقعداً برلمانياً. بيد أن ذلك لن يوفّر الاستقرار الحقيقي للحكومة التي تحتاج إلى دعم 58 نائباً آخر كي تمرّر قراراتها في البرلمان. كما أن أياً من طرفيها ليس مقبولاً لدى الشعب: الجمهوريون تشوهت سمعتهم على يد زعيمهم إريك سيوتي الذي خرج على الإجماع الحزبي ورضي أن يضع يده في يد لوبّن، بينما بات ماكرون "جثة سياسية" تمشي على قدمين، بعدما رفضه الشعب بوضوح ثلاث مرات متتالية.

وثمة سيناريو آخر، يمكن اليسار الفرنسي استنساخه من تجربة هولندا. حين رفضت الأحزاب كلها المشاركة في وزارة يشكّلها خيرت فيلدرز، الشعبوي المعادي للإسلام، تنازل هذا الفائز بأكبر حصة من الأصوات في انتخابات العام الماضي عن رئاسة الحكومة لمصلحة بديل هو ديك شوف، المدير العام السابق لسلك الأمن والاستخبارات، الذي حظي بقبول الجميع.

إن الفوضى التي أججها ماكرون بمغامرته الخاسرة لا ينبغي أن تستمر، أقله كي لا يتضرّر أولئك الذين يبتهجون اليوم في بروكسل والناتو وكييف... بإبعاد اليمين العنصري عن رئاسة الحكومة الفرنسية.

"الحاجز الوقائي" في وجه أقصى اليمين، الذي تمّ خرقه في هولندا والمجر وإيطاليا، لا يزال صامداً هنا بفضل "فرنسا الأبية" وحلفائها. هناك ما يشبه الإجماع على أن ميلانشون غير ملائم لتسلّم رئاسة الحكومة. فهل يرضى بالتخلّي عن هذا المنصب لشخصية مقبولة للجميع؟