أثار الفوز الكاسح لحزب العمال في الانتخابات البريطانية على حزب المحافظين، اهتماماً تجاوز بريطانيا إلى خارجها، ويبدو ذلك مفهوماً باعتبار أن بريطانيا- مهما ضعفت وتدهورت أوضاعها- قوة كبرى غربية ليست بعيدة عن كثير من مجريات الأمور في العالم. بعد نحو عقد ونصف عقد من حكم حزب المحافظين، يتوقع كثيرون أن تشهد بريطانيا تغييراً واضحاً في سياساتها الداخلية والخارجية مع تولي حزب العمال بقيادة رئيس الوزراء الجديد كيير ستارمر.

تبدو بعض التوقعات مقبولة بعد السنوات الأخيرة من حزب المحافظين التي شهدت تغيير رئيس الحزب والحكومة أربع مرات في أربع سنوات وما شاب البلاد من فضائح وانتهاكات سياسية، وفشل في إدارة الاقتصاد أدى لأن تصبح بريطانيا الأسوأ وضعاً بين الدول المتقدمة كلها وحتى من بعض الدول غير المماثلة.

إلا أن هناك مغالاة في التوقع من كثيرين، في بريطانيا وخارجها، لما يمكن أن تحدثه حكومة العمال برائسة ستارمر. ومع أن شعار العمال في حملته الانتخابية كان «التغيير»، إلا أن الوعود الانتخابية لا تكون قابلة للتحقيق في الأغلب الأعم. وإذا كان توني بلير وغوردون براون أحدثا تغييراً في توجه حزب العمال منتصف تسعينات القرن الماضي بطرح «العمال الجديد» آخذين الحزب بعيداً عن اليسار ونحو الوسط، فإن كير ستارمر أخذ الحزب أكثر نحو اليمين حتى تطابقت مواقفه وسياساته كثيراً مع حزب المحافظين. وتلك سمة عامة للسياسة في الديمقراطيات الغربية في العقود الأخيرة، وتحديداً منذ ثمانينات القرن الماضي، حيث تكاد تتلاشى الفوارق بين اليمين واليسار. ومع تركز الكل في الوسط تشظت تيارات جديدة صاعدة الآن من اليمين المتطرف وبدرجة أقل بروزاً اليسار الفوضوي. وبالتالي من ناحية «المبدئية السياسية» ليس هناك الكثير الذي يمكن توقعه من تغيير في الساحة السياسية البريطانية من صعود العمال ووجودهم في الحكم- اللهم إلا مزيداً من صعود اليمين المتطرف.

من المهم أيضاً الإشارة إلى أن كير ستارمر، من سجل تاريخه غير السياسي والسنوات القليلة التي أصبح فيها نائباً في البرلمان وصعوده الصاروخي في حزب العمال، وإن كان «ابن المؤسسة» إلا أنه لا يتمتع بأي ميزات قيادية تتجاوز كونه «موظفاً كبيراً». وربما كان هذا أفضل ما تحتاج إليه بريطانيا الآن بعد مغامرات مدمرة من شخصية كارزمية مثل بوريس جونسون وبعض فريقه. فربما يعيد ذلك بعض «الاستقرار»- حتى لو كان يدفع نحو الملل- في الحكم وحوله يعيد بعض ثقة الشعب في مؤسسات السلطة.

أما الوعود بالنمو الاقتصادي الهائل الذي يجعل من الممكن تحسين أحوال المعيشة وتجاوز الأزمة الحالية التي يشعر بها البريطانيون في تفاصيل حياتهم اليومية ففيه قدر كبير من المبالغة. فمهما كانت الخطط والبرامج والسياسات، فإن تنفيذها أمر آخر. كما أن الوقائع على الأرض لا تشير إلى أن بإمكان ستارمر وفريقه إنجاز تحول كبير في وضع بريطانيا الاقتصادي.

حتى سياسياً، فإن وعد ستارمر بأن «يعيد ثقة الناس في الحكومة» تظل تكهناً يصعب الحسم بإمكانية تحقيقه. فالثقة التي تنهار في لحظة تحتاج إلى سنوات وجهد استثنائي لإعادة بنائها.

يرى البعض أن البريطانيين منحوا حزب العمال وكير ستارمر ثقتهم بتفويض واسع، كما تشير نتيجة الانتخابات. ربما هناك مغالاة في التحليل هنا؛ إذ إن نسبة كبيرة من البريطانيين صوتوا احتجاجاً ضد حزب المحافظين وحكومته؛ بل إن القاعدة التصويتية للمحافظين التي لم ترد التصويت لليمين المتطرف لم تجد بين الأحزاب البريطانية من هو أقرب للسياسات والمواقف المحافظة من حزب كير ستارمر. فنتيجة الانتخابات فيها من الاعتراض وتصويت الضرورة أكثر من منح الثقة والتفويض.

أما المغالاة في التوقع فتبدو أكبر فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، حيث يرى البعض أن سياسة حكومة العمال ستختلف كثيراً عن سياسة المحافظين فيما يتعلق بالعلاقات البريطانية مع أوروبا وأمريكا وأيضاً في قضايا ساخنة مثل أوكرانيا وفلسطين.

وبالنظر إلى سجل ستارمر وحزبه على مدى السنوات الأخيرة نجد أن مواقفه لا تختلف كثيراً عن مواقف المحافظين فيما يتعلق بالخروج من أوروبا (بريكست) وقضايا الهجرة وحرب أوكرانيا والحرب على غزة وغيرها. صحيح أن الانتخابات أظهرت تأثيراً واضحاً للمواقف من حرب غزة، وخسر حزب العمال بعض الدوائر لصالح نواب مستقلين قامت حملتهم على رفض الحرب ورفض تأييد الاحتلال، لكن ذلك أدى إلى وعد بتغيير الموقف قليلاً من قبيل التخلي عن رفض دعوات وقف الحرب.

أما الوعود بالاعتراف بدولة فلسطين، وبعض التوقعات المغالية بتقليل الدعم البريطاني للاحتلال، فتبدو متفائلة أكثر من اللازم. فحكومة ستارمر ليس من أولوياتها تغيير العلاقة مع واشنطن، وبالتالي لن تختلف مواقفها من قضايا المنطقة كثيراً عن الموقف الأمريكي- هذا إن اختلفت أصلاً. ربما نسمع بعض تصريحات من قبيل الإنشاء السياسي، لكن عملياً لا شئ سيتغير حقاً. وربما يستهدف الحزب فقط استعادة بعض الناخبين الذين صوتوا ضده بسبب مواقفه من حرب غزة، لكن الدعم المطلق للاحتلال لن يتأثر كثيراً- هذا إن تأثر أصلاً أيضاً.

الخلاصة أن بريطانيا بحكم العمال وكير ستارمر ستشهد استمراراً في سياستها الخارجية وبعض التغيير الطفيف في السياسات الداخلية، لكن دون أن نتوقع «تغييراً» هائلاً كما يظن البعض.