يشهد العالم انحساراً غير مسبوق لسلطة القانون الدولي في العلاقات بين الأمم، وتراجعاً واضحاً عن المكاسب التي حققتها الشعوب بفضل انتشار العولمة، بداية من العقد الأخير من القرن الماضي؛ ومن الواضح أننا نعيش في عالم أخفق في احتواء الصراعات بين القوى الكبرى، على الرغم من أن منطق السوق ما زال يفرض وضعية من التبعية المتبادلة بين كل الدول في مجال المبادلات الاقتصادية، يصعب تجاوزها. وقد أسهم خوف المجتمعات من تراجع سلطتها على مؤسساتها، وتزايد الهجرات السكانية من الجنوب نحو الشمال، في عودة الاصطفاف خلف الهويات الجماعية من أجل الدفاع عمّا تقول هذه المجتمعات إنه يرمز إلى خصوصياتها الثقافية المهدّدة من طرف الغرباء، ومن قِبل تيار العولمة العابر للحدود.
ويمكن القول إن التقدم الانتخابي الذي حققه اليمين الشعبوي في أوروبا يمثل أبرز تجليات الاصطفاف الهوياتي الذي يصل، أحياناً، إلى مستوى الانغلاق، ومحاولة إقصاء الآخر، كأن اليمين يبحث عن نموذج مجتمع يعود بنا القهقرى إلى زمن القوميات المنغلقة على نفسها؛ ومن ثمّ، فإنه ورغم وجود الكثير من العناصر المشتركة بين شعبوية اليسار واليمين، فإن اليمين الشعبوي يبدو أكثر تهديداً للاستقرار في أوروبا من اليسار الشعبوي، لأن هذا الأخير يركّز بشكل أساسي على الجانب الاقتصادي، بينما يشجّع اليمين الشعبوي على التشدّد القومي، ويطالب بتجسيد مبدأ تفضيل ما هو وطني على حساب ما هو وافد في كل المجالات المرتبطة بالحصول على مناصب الشغل، والإعانات الاجتماعية، بعيداً عن معايير الكفاءة، والاستحقاق.
ربما يجد البعض تبريرات مقنعة بشأن المطالب الداخلية للتيارات اليمينية الشعبوية في أوروبا، بخاصة ما تعلق منها بالملفات الأمنية، والمصالح الاقتصادية، للأفراد والمجتمع، لكن التحدي الأكبر الذي تفرضه خيارات اليمين الشعبوي يتعلق بالعلاقات الدولية، وبالسياسة الخارجية، ليس على مستوى المبالغة في التشدّد في ما يتعلق بمطلب السيادة الوطنية فقط، ولكن أيضاً في ما يتصل بمستقبل الاتحاد الأوروبي الذي يظل يمثل، حتى الآن، السبيل الوحيد القادر على حماية القارة العجوز من مخاطر العودة إلى المواجهات القومية التي من شأنها أن تشجّع أيضاً التوجهات الانفصالية في دول، مثل إسبانيا، وبلجيكا، وإيطاليا.
ونستطيع أن نزعم في هذا السياق، أنه من الصعوبة بمكان تقديم توقعات بشأن تبعات الخيارات السياسية لليمين الشعبوي على المستوى الدولي، سواء تعلق الأمر بدول من داخل أوروبا، أو من خارجها؛ فقد أدت توجهات اليمين المحافظ في بريطانيا إلى خروج المملكة من الاتحاد الأوروبي، وإلى دخولها في أزمة اقتصادية غير مسبوقة، كان من نتائجها بروز اختلالات في سلاسل التوريد، وظهور حالات ندرة بالنسبة إلى العديد من السلع الاستهلاكية، إضافة إلى ارتفاع واضح في أسعارها؛ كما أدى وصول اليمين الشعبوي إلى الحكم في الأرجنتين، برئاسة خافيير مايلي، إلى إحداث زلزال في السياسة الخارجية لهذه الدولة، على حساب خياراتها الاستراتيجية، حيث أعاد مايلي الأرجنتين إلى أحضان واشنطن، وإلى تحالفها مع الدول الغربية، رغم أنها تعتبر من الناحية الجيوسياسية جزءاً من الجنوب الشامل، واتخذ بعد تسلمه مقاليد السلطة في بوينس آيرس، قراره بإلغاء عضوية بلاده في مجموعة «البريكس».
وبالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، يمكننا الاستنتاج أن إمكانية عودة ترامب الشعبوي إلى الحكم في البيت الأبيض لن تؤدي إلى النتائج نفسها التي نستطيع ملاحظتها في باقي الديمقراطيات الغربية، نتيجة للخصوصيات التي يتميّز بها هرم السلطة في أمريكا، والتي تجعل المؤسسات التشريعية والقضائية تمارس شكلاً من أشكال السلطة المضادة، ويمكنها أن تمنع الرئيس من ارتكاب حماقات من شأنها أن تضر بالمصالح الخارجية لواشنطن؛ والأحداث التي وقعت في ولاية ترامب الأولى، والمتابعات القضائية التي يواجهها حالياً، تدعم هذه الفرضية.
أما في الشرق الأوسط، فإن المجتمع الدولي بات مقتنعاً الآن أن وجود اليمين الشعبوي المتطرف في الحكم في إسرائيل، لا يمكنه أن يُسهم في تحقيق السلام وفي تجسيد قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بإقامة دولة فلسطينية؛ لأن اليمين الشعبوي الذي يرتكب جرائم الإبادة الجماعية في حق الفلسطينيين، لا يؤمن أصلاً، بحل الدولتين الذي يسعى الجميع إلى تجسيده، بمن فيهم حلفاء تل أبيب الأوفياء، وعلى رأسهم واشنطن، التي تضررت صورتها على المستوى الدولي بشكل كبير، نتيجة مشاهد القتل والتجويع في غزة، ومشاركتها في عمليات الإبادة، من خلال دعمها إسرائيل عسكرياً.
ونخلص بناء على ما تقدم، إلى أن اليمين الشعبوي حتى وإن أصبح حجم تأثيره في السياسة الخارجية للدول أقل بكثير مما كان عليه في الثلاثينات من القرن الماضي، إلا أنه ما زال قادراً على إشاعة مناخ عام من التوتر بسبب تفضيله للمواجهة على حساب الحلول التوافقية، بخاصة أن الانقسام غير المسبوق الذي يشهده العالم يجعل فرص فرض القانون الدولي على مستوى العلاقات بين الدول، ضئيلة؛ كما أن السياسة الخارجية لليمين الشعبوي تتميز، كما يقول الخبراء، بشخصنة القرارات، وبتقليص دور الدبلوماسية التقليدية القائم على إدارة الخلافات بهدوء، بعيداً عن الصخب الإعلامي، وبتجييش وإثارة الرأي العام والزج به في قضايا ليست من اختصاصه، ولا يملك معطيات كافية بشأنها.
التعليقات