يتعرض الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لسيل من الانتقادات السياسية والشعبية منذ قرر حل الجمعية الوطنية إثر الفوز المدوي لليمين المتطرف في انتخابات البرلمان الأوروبي، وبعد الانتخابات التشريعية الأخيرة في فرنسا التي أفرزت ثلاثة كتل متباينة ومتقاربة في الحجم. حتى أن رئيس حكومته السابق إدوار فيليب رئيس تيار Horizon (أفق) حليف تيار "النهضة" الماكروني في الانتخابات قال في حديث تلفزيوني عندما سئل عما إذا كان ينصح الرئيس بالتحالف مع اليمين الجمهوري إنه "يكفي أن تنصح ماكرون بأمر معين كي يفعل العكس".
يظهر تاريخ الجمهورية الخامسة في فرنسا عموماً أن الشعب الفرنسي يختار رئيساً ثم ينتقده وينقلب عليه خلال عهده ثم يقدره ويشيد به عندما يرحل. حصل هذا مع الرئيس الراحل فرانسوا ميتران الذي أجبر خلال عهده على تشكيل حكومة تعايش مع اليمين الديغولي برئاسة إدوار بالادور، ثم مع الرئيس الراحل جاك شيراك عندما أجبر على تشكيل حكومة تعايش مع الاشتراكي ليونيل جوسبان.
اليوم يصل الرئيس ماكرون إلى واشنطن للمشاركة في قمة الناتو ولقاء حلفائه، فكيف سيطمئنهم إلى موقع فرنسا في ظل التخبط السياسي الذي نشأ من انتخابات تشريعية لم تعط لأي تكتل أغلبية ليحكم، وتنذر بتعطيل على الصعيدين الاقتصادي والسياسي.
فاليسار الممثل بتحالف "الجبهة الشعبية الجديدة" أصبح الحزب الأول مع 182 نائباً يليه التكتل الماكروني مع 168 نائباً فـ"التجمع الوطني" الذي تتزعمه مارين لوبن ويترأسه جوردان بارديلا مع 143 نائباً. والمعضلة أمام ماكرون اليوم هي كيف يشكل حكومته ومن يترأسها؟
طلب ماكرون من رئيس الحكومة الحالي غبريال أتال البقاء مع حكومته لتصريف الأعمال، خصوصاً لتجنب الفراغ خلال الألعاب الأولمبية التي تستضيفها فرنسا في 26 من تموز (يوليو) الجاري وحتى مطلع أيلول (سبتمبر)، لكن أصوات المعارضة اليسارية ترتفع مطالبة بتشكيل حكومة جديدة برئاسة شخصية تحظى بدعم الكتلة الأولى "الجبهة الشعبية الجديدة". وهناك من يطالب بأن يكون الأمين العام للحزب الاشتراكي أوليفييه فور رئيساً للحكومة، في مقابل أصوات تنصح ماكرون بالتحالف مع اليمين الجمهوري وتشكيل حكومة من اليمين، مثلاً، مع الوزير الجمهوري السابق كزافييه برتران وذلك لطمأنة الأسواق والشركات وقطاع العمل.
ماكرون لم يقرر بعد والتفاوض مستمر بعيداً عن الأضواء بين القوى التي يمكن أن تقبل المشاركة في الحكم معه. ورغم أن الصراع على النفوذ عاد إلى البرلمان، سيبقى ماكرون حريصاً على الحفاظ على الإصلاحات التي أدخلها عبر قوانين تمكن من تمريرها، إما بالتحالف مع اليمين أو باللجوء إلى البند 49.3 من الدستور. وتواجه ماكرون مشكلة عويصة مع اليسار، فالجبهة الشعبية تطالب بإلغاء سن التقاعد في الرابعة والستين، وهو القانون الذي قاتل من أجله مع رئيسة حكومته السابقة إليزابيت بورن، والعودة إلى سن الستين ورفع الحد الأدنى للرواتب إلى 1600 يورو، والعودة إلى 35 ساعة عمل أسبوعياً ورفع القدرة الشرائية بتجميد الأسعار.
وفي هذا السياق كتبت صحيفة "لو فيغارو" الفرنسية تعليقاً يحذر من انهيار الاقتصاد الفرنسي إذا نفذت اقتراحات "الجبهة الشعبية". فمثلاً، بحسب الصحيفة، يؤدي تجميد الأسعار إلى نقص في السلع لأن المنتجين سيبتعدون عن فرنسا، ورفع الراتب الأدنى إلى 1600 يورو يؤدي إلى إفلاسات في أوساط التجار الصغار والحرفيين، أما إلغاء قانون التقاعد الذي أدخله ماكرون فسيزيد المديونية ويكلف فرنسا 56 مليار يورو سنوياً والعودة إلى فرض ضرائب على الشركات الكبرى وعلى الثروة، ما سيؤدي بدوره إلى تراجع الاستثمارات الأجنبية ومغادرة الشركات الأجنبية وزيادة البطالة.
مشروع اليسار الفرنسي كلفته مرتفعة في ظل أوضاع مالية متراجعة، حتى أن وزير المالية برونو لومير حذر من نتائج كارثية على الاقتصاد إذا طبقت "الجبهة الشعبية الجديدة" برنامجها الاقتصادي.
وهكذا، بعد فرحة النجاح في منع فوز "التجمع الوطني" اليميني بأغلبية مطلقة، بدأ القلق يسود في البلاد، فالوضع الاقتصادي مهدد بالانهيار فعلاً إذا شكل ماكرون حكومة من "الجبهة الشعبية الجديدة"، ولكنه مهدد أيضاً بالتجميد والتعطيل إذا كانت الحكومة من خارج التكتل اليساري الذي فاز بأكبر عدد من المقاعد النيابية، أضف إلى ذلك أن "التجمع الوطني" لا يزال قوياً، فهو كتلة واحدة وحصل على تصويت حوالي 10 ملايين ناخب، ما يؤكد تقدم شعبيته، وإذا استمر الوضع كما هو فقد يزيد فرص فوز لوبن في الانتخابات الرئاسية في 2027.
ويسعى ماكرون في خياراته الحكومية إلى تجنب تعطيل عمله، خصوصاً أن الرئيس الفرنسي في أي تعايش حكومي يبقى المسؤول عن العلاقات الخارجية والدفاعية وله رأيه في اختيار وزير الخارجية في حكومة تعايش.
وإذ سبق لماكرون أن سعى إلى وقف التعطيل في انتخابات الرئاسة اللبنانية، السؤال هو الآن: هل يكلف المبعوث الرئاسي إلى لبنان الوزير جان إيف لودريان رئيساً للحكومة لأنه خبير في شؤون التعطيل، وهو أيضاً وجه اشتراكي له تقديره لدى الاشتراكيين، وحتى لدى اليمين الجمهوري وكان الرئيس السابق نيقولا ساركوزي عرض عليه منصباً وزارياً في عهده لكنه رفضه، أم يلجأ ماكرون إلى شخصية أخرى وسطية؟ الجواب قد يستغرق وقتاً لأنه قد لا يتخذ قراراً قبل انتهاء الألعاب الأولمبية التي ستسقطب زيارة أكثر من 90 رئيس دولة.
التعليقات