وجدت حكومة حزب «العمال» البريطاني نفسها في مواجهة مبكرة مع اليمين المتطرف الذي يقود احتجاجات عنيفة غير مسبوقة منذ سنوات، على خلفية مقتل ثلاث فتيات في هجوم بسكين في حفل راقص للأطفال في ساوثبورت بشمال غرب إنجلترا الأسبوع الماضي، وبسبب الأوضاع السياسية الهشة والتوترات الاجتماعية، طرحت أعمال العنف تساؤلات كثيرة حول أبعادها وأهدافها الآنية والمؤجلة.
تقول وسائل الإعلام البريطانية: إن معلومات مضللة حول حادث ساوثبورت أسهمت في إذكاء المشاعر المعادية للمهاجرين والمسلمين، وهي ظاهرة كانت موجودة قبل تلك الجريمة، وسعت حكومة المحافظين السابقة إلى إيجاد حل لها باتفاق لنقل طالبي اللجوء إلى راوندا، لكن الخطة المعروفة باسم «اتفاقية الشراكة للهجرة والتنمية الاقتصادية» انهارت بمجرد صدور نتائج الانتخابات الشهر الماضي، ودخول رئيس الوزراء العمالي كير ستارمر مقر الحكومة في «10 داوننغ ستريت» بعد أن حقق فوزاً ساحقاً على حزب المحافظين الذي احتفظ بالسلطة 14 عاماً.
ويبدو أن وأد حكومة العمال لتك الخطة، المدعومة أصلاً من أقصى اليمين المتطرف وبلورها رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون، سيعود بنتائج عكسية، وربما كانت الاحتجاجات الأخيرة بعضاً من ذلك، بل إن ستارمر اعتبرها غير مشروعة، وإنما هي أفعال متعمدة من اليمين المتطرف، بتنسيق من «مجموعة من الأفراد الذين يميلون تماماً إلى العنف». وهذا الموقف تتبناه أطراف من غير العماليين، والمراقبون للشأن البريطاني من خارج حدود المملكة المتحدة.
هناك حقيقة لا تخفى في لندن، وهي أن اليمين المتطرف أصبح له حضور وتأثير في صنع السياسات واستقطاب الرأي العام، ودليل ذلك فوز «حزب الإصلاح البريطاني» وزعيمه الشعبوي نايجل فراج بخمسة مقاعد في مجلس العموم بعد انتخابات الشهر الماضي. ورغم أن هذه النتيجة كانت دون التوقعات، فإنها تؤشر إلى ظاهرة يمينية تحاول أن تملأ الفراغ النسبي الذي أحدثته هزيمة المحافظين التاريخية، في وقت كان زعماء الحزب يناورون في اتجاهات عدة للحفاظ على بعض المكتسبات، وأهمها إعادة بناء الاستراتيجيات البريطانية بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي قبل ثماني سنوات، لكن الأزمات العالمية المتلاحقة منذ جائحة كورونا، مروراً بالحرب الدائرة في أوكرانيا، وصولاً إلى التوتر المتصاعد في الشرق الأوسط، جعلت ذلك الحلم باستعادة أمجاد مضت يتبخر بسرعة قياسية، وعبّر عن ذلك النفور الانتخابي من المحافظين لصالح حزب «العمال»، الذي يبدو أنه ورث تركة من المشكلات، وأهمها المد الشعبوي، الذي تتطلب مواجهته كثيراً من الجرأة والشجاعة السياسية.
الحقيقة المؤكدة في احتجاجات اليمين المتطرف، وزيادة النبرة العدائية للمهاجرين والمسلمين، أنها ظاهرة لم تأت من عدم وباتت تنتشر على نطاق واسع، بفعل قضايا بريطانية داخلية، وبفعل تحريض خارجي لا يخفى من أشهر طويلة، وذلك على خلفية العدوان الإسرائيلي على غزة، الذي أذكى مشاعر ما يسمى ب «الإسلاموفوبيا» للتشويش على التعاطف الكبير للرأي العام الغربي مع الشعب الفلسطيني. ومن هذا المنطلق فإن اليمين المتطرف لا يتحرك من فراغ، وربما ما جرى في الأيام الأخيرة في مدن بريطانية عدة مجرد بداية لسلسلة من القلاقل التي قد تتطور إلى أزمة اجتماعية خطرة.
التعليقات