أسعد عبود

أكثر من 6 مرّات، هي اللقاءات التي عقدها وزيرا الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن والصيني وانغ يي في أقل من عام، بهدف تنظيم الصراع بين أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم، وتهدئة التوترات التي تنشب من حين إلى آخر في منطقة المحيطين الهادئ والهندي.

أميركا والصين على يقين بأن استمرار قوتيهما الاقتصادية تتوقف على حجم ما يكتسبانه من مصالح ويوطدانه من نفوذ في آسيا. ومنذ رئاسة باراك أوباما، بدأت الولايات المتحدة تدرك أن آسيا هي مستقبل العالم أكثر مما هي أوروبا، أو أي منطقة أخرى في العالم. تعززت هذه السياسة في ولايتي دونالد ترامب وجو بايدن.

التمسّك الأميركي بالدفاع عن تايوان والفيليبين وتعزيز العلاقات العسكرية مع اليابان ونقلها إلى مرحلة هي الأكثر نوعية منذ 70 عاماً، هي إحدى وسائل الضغط التي تمارسها واشنطن لمواجهة النمو المتصاعد في القوة الصينية.

الصين تنبّهت، بعد التعثر الذي واجهه الجيش الروسي في أوكرانيا، إلى أن الجيوش الكبيرة ليست بالضرورة قادرة على حسم الحروب، وأن دخول المسيّرات عاملاً أساسياً في الهجمات غيّر الكثير من المفاهيم العسكرية التقليدية. بسلاح المسيّرات، أنزلت وتُنزل أوكرانيا خسائر فادحة بالبنى التحتية الروسية، وتطال مصافي نفط ومطارات عسكرية استراتيجية على مسافة أكثر من 1800 كيلومتر في الداخل الروسي، بينما المسيّرات البحرية نجحت في تحييد أسطول البحر الأسود الروسي إلى حدّ كبير.

ما تخشاه أميركا هو أن الصين التي تُحدّث جيشها تعلّمت الكثير من الحرب الروسية - الأوكرانية، وهذا يفرض على واشنطن توسيع نطاق العلاقات العسكرية في آسيا من أستراليا إلى اليابان وكوريا الجنوبية.

هناك بيئة أمنية متغيّرة في آسيا بكل ما للكلمة من معنى. والمناورات الجوية المشتركة التي أجرتها قاذفات روسية وصينية للمرّة الأولى قرب ولاية ألاسكا الأميركية قبل أيام، أيقظت واشنطن إلى المدى الذي بلغته العلاقات الروسية - الصينية في السنوات الأخيرة. وهذا ما استوجب من بلينكن أن يثير مع وانغ يي خلال لقائهما الأخير في لاوس، على هامش اجتماع وزراء الخارجية لرابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، المساعدة العسكرية الصينية لروسيا في حربها مع أوكرانيا.

وأعقب ذلك إعلان الولايات المتحدة الأحد خططاً لرفع مستوى قيادتها العسكرية في اليابان، من أجل تعميق التعاون مع القوات اليابانية الحليفة، وذلك في وقت يصف البلدان الصين بأنها "أكبر تحدٍ استراتيجي" يواجه المنطقة.

وفي وقت سابق من الشهر الجاري، دعت إدارة الرئيس جو بايدن اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا لحضور قمة حلف شمال الأطلسي في واشنطن، في الذكرى الـ75 لتأسيس الحلف. وهذه إشارة إلى التعاون المتزايد بين الحلف العسكري الغربي وقوى حليفة لأميركا في المحيط الهادئ.

والمفهوم الأميركي للأمن العالمي ينعكس أيضاً على بريطانيا الأكثر التصاقاً بالأمن الأميركي، التي يقول وزير دفاعها السابق جورج روبرتسون، الذي كان أميناً عاماً سابقاً للحلف الأطلسي أيضاً ويشرف الآن على مراجعة دفاعية للمملكة بتكليف من الحكومة البريطانية العمالية الجديدة، إن هناك "رباعية قاتلة" في العالم تضمّ الصين وإيران وكوريا الشمالية وروسيا، ليضيف أن القمة الأطلسية الأخيرة "أوضحت بجلاء أن التحدّي الذي تمثله الصين يتعيّن أخذه على محمل الجد الشديد فعلاً".

أثبتت الحرب الروسية - الأوكرانية أن النظام العالمي القديم سقط. صحيح أن روسيا لم تحقق انتصاراً حاسماً ولحقت بها خسائر فادحة، لكن الغرب الداعم لأوكرانيا يعاني هو الآخر من تبعات العقوبات المفروضة على موسكو، والعبء الثقيل للدعم المقدّم لأوكرانيا كي تتمكن من الصمود.

وهذا ما أوجد مناخاً جعل الصين ومعها دول الجنوب العالمي تتطلّع إلى نظام عالمي جديد يعتمد التعددية القطبية، يكون أكثر عدالة في العالم، ولا يُبقي الولايات المتحدة قوة مهيمنة منذ انتصارها في الحرب الباردة على الاتحاد السوفياتي.

وآسيا هي المحك اليوم في تحديد هوية القوة التي سيكون لها الشأن في تقرير مصير العالم في العقود المقبلة من القرن الجاري. الألفية الماضية كانت أوروبية بامتياز، مع حربين عالميتين غيّرتا وجه العالم. القرن الجاري هو قرن آسيوي بامتياز.