بداية، لا بدّ من التأكيد على أن القضية الفلسطينية ما كان لها أن تنشأ، وأن تتحول إلى معضلة عالمية لولا موقع ودور فلسطين في منطقتنا العربية المستهدفة أساساً، من قبل المشروع الإمبريالي الغربي، الذي شكّل الرافعة الأساسية للمشروع الإسرائيلي، الذي لا يستهدف فلسطين وحدها، وإنما يعتبر فلسطين نقطة ارتكاز لمشروع استعماري، أوسع وأشمل، وبالتالي، فإن الضحية المباشرة، كانت فلسطين وشعبها، وهذه المسألة كانت، وما زالت بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني مسألة وجود، أولاً وأخيراً، وتؤكدها كل يوم مجريات الصراع المفتوح، وطبيعته الشاملة، بين الشعب الفلسطيني والاحتلال الإسرائيلي، وتتأكد يومياً في ضوء العدوان الإسرائيلي، وحرب التدمير والإبادة الجماعية التي تشنها قوات الاحتلال ضد قطاع غزة، وأهله، منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. ولو عدنا إلى التاريخ بعد قيام إسرائيل في عام 1948 لرأينا أنه رغم الانتصارات التي حققتها قوات الاحتلال الإسرائيلي، في ظل الاختلال الكبير في ميزان القوى بين طرفي الصراع الأساسيين، لم تتمكن إسرائيل من القضاء على مقاومة الشعب الفلسطيني التي لم تفتر يوماً، رغم كل التضحيات التي قدمها هذا الشعب، وإنما تعدّدت أشكالها ووسائلها وأدواتها، وصولاً إلى يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول، الذي كان حدثاً تاريخياً، بمقاييس الصراع الشامل، ومحدّدات ميزان القوى على المدى البعيد، حيث استطاعت المقاومة الفلسطينية، بمختلف فصائلها، دكّ أسس المشروع الإسرائيلي في المنطقة، الأمر الذي حدا بالقوى الاستعمارية الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الحاضن والراعي الأهم للمشروع الإسرائيلي، إلى الاصطفاف وراء إسرائيل في حرب الإبادة التي تشنها على الشعب الفلسطيني، ليس في قطاع غزة فقط، وإنما في الضفة الغربية أيضاً، التي تشهد تصاعداً في اعتداءات قوات الجيش والمستوطنين، على المدن والقرى الفلسطينية، والتنكيل بأبنائها، واعتقال الآلاف منهم . صحيح أن فاتورة التضحيات التي يقدمها الشعب الفلسطيني، في هذه الحرب، تبدو ثقيلة جداً، سواء من الناحية البشرية أو الاقتصادية، إلا أنه رغم كل ذلك، فقد شكل انطلاق طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر من العام الماضي، ما يشبه الحجر الكبير الذي حرّك مياه المستنقع الراكدة، حيث شهدت القضية الفلسطينية قبل هذا التاريخ تراجعاً ملحوظاً في حضورها العالمي، وتكلّساً سياسياً على صعيد الداخل الفلسطيني، في ظل الانقسام، وضعف السلطة الفلسطينية، وعجزها عن مواجهة القمع والاعتقالات في صفوف المواطنين الفلسطينيين، مع استمرار الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة، الذي بدا كأنه بات أمراً واقعاً على الشعب الفلسطيني تقبّله، والتعايش معه كما يريد الاحتلال، الأمر الذي كاد أن يقذف بالقضية الفلسطينية، كقضية تحرر وطني إلى متاهات النسيان، في الوقت الذي كانت فيه إسرائيل تسعى، بكل الوسائل، لتسييد نفسها كقوة إقليمية فاعلة، تستطيع إملاء شروطها على الجميع، مستقويّة بالدعم الغربي اللامحدود، لا سيما من جانب الولايات المتحدة. ولذلك، فإن أحداث السابع من أكتوبر وتداعياتها ساعدت على إحياء القضية الفلسطينية، ودفعها إلى دائرة الاهتمام العالمي من جديد، بل وأسهمت، بشكل كبير، في تغيير ملحوظ في الرأي العام العالمي، تجاه هذه القضية، سواء على المستويات الشعبية، أو الرسمية، في الكثير من الدول. صحيح أن الخسائر الفلسطينية في هذه الحرب كبيرة، حيث فاق عدد الشهداء الأربعين ألفاً، ونحو مئة ألف جريح، عدا المفقودين، إلا أن ما يجب عدم إغفاله في هذه المعادلة هو أن قوات الاحتلال الإسرائيلي غرقت في وحل قطاع غزة، من خلال حرب العصابات التي تشنها المقاومة الفلسطينية ضد هذه القوات، على نحو لم تشهده في مراحل الصراع السابقة، إذ نجحت هذه المقاومة في جرّ قوات الاحتلال وإغراقها في حرب استنزاف عالية الكلفة، لدرجة بات فيها جيش الاحتلال عاجزاً عن تحقيق نصر استراتيجي، رغم مرور أكثر من ثلاثمئة يوم على طوفان الأقصى، الأمر الذي أوقع هذا الجيش في حالة من التردد والارتباك، لأنه إذا انسحب من قطاع غزة يعني تسليمه بالهزيمة أمام المقاومة، وإذا بقي في القطاع سيغرق أكثر فأكثر في مستنقع الاستنزاف المُكلف، ولذلك نرى أن إسرائيل تسعى إلى تحقيق أيّ صورة نصر، ولو وهمية.
- آخر تحديث :
التعليقات