قبلَ نحوٍ من 100 عامٍ، كتبَ أميرُ الشعراءِ أحمد شوقي:

«وللحريّةِ الحمراءِ بابٌ بكلّ يدٍ مُضرَّجةٍ يُدقُّ».

ويبدو أنَّ بابَ الحريةِ ملطّخ بالدَّمِ على مرّ العُصور.

تحتفلُ فرنسا، اليوم، بمرورِ 80 عاماً على تحرير باريسَ من الاحتلالِ الألماني. تُرفع الأعلامُ وتُعزف الموسيقى وتُلقى الخُطبُ وتُستنفر برامج التلفزيون. في ذلك اليوم البعيد، عادَ قائدُ المقاومةِ الجنرال ديغول من منفاه في لندن، وسارَ مع رفاقه في «الشانزليزيه» وهو يحيّي الحشودَ على الجانبين. حفظَ له التاريخُ تلك الكلماتِ المدويّة: «باريس غاضبةٌ. باريس محطَّمةٌ. باريسُ استشهدتْ. لكنَّ باريسَ تحرَّرت». ذلك هو الوجهُ الجميلُ للحرية. أمَّا جانبُها المسكوتُ عنه فهو ما كشفته وثائقُ جرى رفعُ السريةِ عنها في أوقاتٍ لاحقة. شاهدَ العالمُ أفلاماً تسجيليةً عن الإنزال الذي قامتْ به قواتُ الحلفاء على شواطئ النورماندي. دخلتِ الدباباتُ الأميركيةُ المدنَ والقرى واستقبلَها الفرنسيون بفرحٍ يقارب الهياجَ. تسلَّقتِ الشاباتُ جوانبَ المدرعاتِ والشاحناتِ العسكريةَ للفوز بقبلةٍ من جنودِ التحريرِ الآتينَ من وراءِ البحر.

ما لمْ تصوّرْه الكاميراتُ التجاوزات التي ارتكبَها عددٌ من أولئك الجنودِ وهم في طريقهم لتحريرِ باريس: إهاناتٌ. نهب. متاجرةٌ بموادَّ ممنوعةٍ أو مفتقدةٍ واعتداءاتٍ جنسية. كتبَ المؤرخُ الأميركي روبرت ليلي أنَّ 3500 حالة اغتصابٍ سُجلت ضدَ الجنودِ الأميركيين في فرنسا بين يونيو (حزيران) 1944 ونهايةِ الحرب. تقدَّمت نسبةٌ قليلةٌ من النساءِ بشكاوى وحُوكمَ أفرادٌ من المعتدين وأعدموا.

هناك عذرٌ أقبحُ من ذنب. وهو أنَّ جلّ الجنودِ المعتدين كانوا من السُّود، أي ما يُعرف بالأفارقةِ الأميركيين. شبانٌ لم يقتربوا في حياتِهم من امرأةٍ بيضاءَ بسببِ الفصلِ العنصري في الولايات المتحدة، آنذاك.

جرتْ في الحديقةِ الخلفيةِ للحرية حفلاتُ اقتصاصٍ من المتعاملين مع النازي. اسمُها في الوثائق «وشاية الجيران». هاجمتهم الجماهيرُ المنفلتةُ وقتلت كثيرين منهم بدون محاكمات. المحاكماتُ والمشانقُ نُصبت بعد ذلك. وكانتْ حصةُ النساءِ من الاقتصاص هي الأبشعَ. حلَّقوا رؤوسَهُنَّ وداروا بهنَّ في شوارعِ باريس وسطَ الشتائمِ والبصاقِ. ماتَ عددٌ منهنَّ بجريرةِ إقامةِ علاقاتٍ عاطفيةٍ مع العساكرِ الألمان.

احتاجت ألمانيا، أثناءَ الحرب، لليدِ العاملة. فتحتِ البابَ للفرنسياتِ للعملِ في المصانع التي خلتْ بسببِ تجنيدِ الرجال. بلغَ عددُ الفرنسياتِ اللواتي اشتغلنَ هناك خلال سنوات الحرب 80 ألفَ امرأة. كانَ مصيرُهنَّ قاتماً بعد التحرير. أثمرَ الاختلاطُ مواليدَ يتراوحُ عددُهم بين 75 ألفاً و200 ألف طفلٍ من أمّ فرنسيةٍ وأبٍ ألماني خلال عقدِ الأربعينات. عاشَ أولئك الأبرياءُ يحملون وصمةَ العار.

لكلّ الحرياتِ طعمٌ حلوٌ ومذاقٌ مرّ. جرتْ دماءٌ كثيرةٌ في الولايات المتحدةِ وروسيا واليابان وكمبوديا والجزائر والعراق. وهل ننسَى الصينَ بلدَ المليارِ ونصف المليار؟

الصينُ التي أعلنت قبلَ يومين أنَّ علماءَها باشروا استحلابَ تربةِ القمرِ لاستخراج كمياتٍ كبيرةٍ من المياه. القمرُ قد يغسلُ الأرض.