حاتم البطيوي
في عهد حكومة محمد كريم العمراني الأولى في المغرب (6 آب /أغسطس1971 - 2تشرين الثاني/نوفمبر 1972)، أُبرمت اتفاقية التعاون الفني والإداري والسياسي بين المغرب وموريتانيا في 8 حزيران (يونيو) 1972، وهي الاتفاقية التي عدت آنذاك من أحسن نماذج التعاون الثنائي بين الدول الأفريقية.
في نطاق هذه العلاقات كان السفير أحمد السنوسي الذي شغل منصب وزير الإعلام ما بين 1967 و1971، ويعد أحد أقطاب وزارة الخارجية المغربية، يهتم بمجريات الأمور في موريتانيا. روى السنوسي لي مرة أنه تلقى خبراً في بداية أيار (مايو) 1978 من مصدر موثوق به مفاده أنه بعد شهرين و10 أيام ستقوم مجموعة من العسكريين الموريتانيين بمحاولة انقلابية لإطاحة أول رئيس للبلاد.
ظلت المجموعة التي تتشكل من كبار الضباط تجتمع على امتداد تسعة أشهر للتخطيط لانقلاب العاشر من تموز (يوليو) 1978، فأبلغ السنوسي الملك الحسن الثاني بذلك، فأمره بأن يسافر إلى موريتانيا للقاء الرئيس المختار ولد داده وإبلاغه هذه المعلومات.
في ذلك الوقت كانت وحدات من الجيش الملكي المغربي موجودة فوق الأراضي الموريتانية (9 آلاف جندي)، وتتمركز على بعد أكثر من 300 كلم من نواكشوط.
قال الملك الحسن الثاني للسنوسي: "قل للرئيس ولد داده إنه إذا أراد من الجيش المغربي أن يتدخل لإحباط الانقلاب المنتظر فليطلب منا ذلك رسمياً".
في نواكشوط التقى السنوسي الرئيس ولد داده وأبلغه رسالة الملك. فماذا كان رد الرئيس الموريتاني؟
الرد كان مفجعاً، يقول السنوسي، إذ قال له: "سلم على جلالة الملك، واشكره على هذه المبادرة والدعم، إلا أنني ارتأيت أن أترك المُكتاب يتصرف"، ومعنى ذلك أنه سيترك الأمر للقدر.
حاول السنوسي أن يفسر للرئيس أنه مسؤول عن دولة، وأن من واجبه أن يمارس مسؤولياته ويتحملها، موضحاً له أن ما يقوله له ليس تدخلاً في الشؤون الداخلية لبلاده، وأن المغرب لن يتدخل إذا وقع ما يُنتظر وقوعه من دون طلب رسمي. فرد ولد داده قائلاً: "أكرر القول إنني سأترك المُكتاب يتصرف". فأبلغه السنوسي أيضاً: "إنهم قرروا نفيك إلى جنوب البلاد، وسيتركونك هناك في ظروف غير لائقة وغير مشرفة"، فكان رده للمرة الثالثة: "سأترك المُكتاب يتصرف".
حدث الانقلاب في نهاية المطاف، وكان للجزائريين يد فيه، يقول السنوسي، وكان بالإمكان إحباطه بواسطة 100 من المظليين المغاربة. وتسلم العقيد مصطفى ولد محمد السالك رئاسة البلاد لأنه كان أكبر الانقلابيين سناً.
بعد نحو شهر من الانقلاب عين الملك الحسن الثاني السنوسي سفيراً لدى نواكشوط، وهو ما شكل له أزمة حقيقية لأنه كان على دراية بأن القيادة الجديدة معادية للمغرب.
استقبل الرئيس ولد السالك السنوسي لتسلم أوراق اعتماده ببرودة، وقال له: "سمعت أنك جئت بشاحنة من عملة 'الأوقية' لتقديم رشى لموظفي الحكومة الموريتانية"، فأجابه السنوسي: "فخامة الرئيس سأجيبك بالروح نفسها، إن مهنتي ليست تقديم الرشى للناس". وزاد قائلاً: "أذكّر فخامتك بأن ورقة 'ألف أوقية' حجمها كبير مثل سجادة، وشاحنة من الأوقية لن تتجاوز مبلغ 20 مليون سنتيم مغربي (20 ألف دولار)، وأعتقد أنها إهانة لموريتانيا رشوتها بهذا المبلغ الزهيد".
عبّر الرئيس ولد السالك عن باقي هواجسه بالقول: "قيل لي أيضاً إنك جئت إلى موريتانيا حتى تقتلني"، فكان رد السنوسي: "سيدي الرئيس، في الدول المنظمة كل واحد يقوم بالمهمة المناطة به، فهل رأيت سفيراً يزور رئيس دولة ويطعنه بسكين؟ هذا أمر لم يسبق له أن حدث".
وأضاف السنوسي: "لو كان المغرب يريد القيام بعمل عدائي نحوك لقام به، ومن ثم فإنه ليس من عادات المغرب قتل الناس، ولو كان يريد قتلك لما أرسل لك سفيراً بأوراق اعتماد عليه ختم الملك".
لم يتوقف السنوسي عند هذا الحد إذ زاد : "السيد الرئيس يجب ألا تنسى أننا دولة راقية ومتحضرة، وبلادكم تعرفنا جيداً وأنا جئت إلى رئيس الدولة، ولا يهمنا من يكون رئيسها، فذاك شأن موريتاني صرف. ولو كنا نريد التدخل لقُمنا بذلك، ولما كنت أنت في الموقع الذي أنت فيه الآن، ولهذا أرجو من سيادتكم الكف عن هذه الهواجس".
وقتذاك لم يكن أمام الرئيس ولد السالك سوى تغيير لهجته والقول: "أنا فقط أمزح معك". وبعد ذلك دخلا في جو من الانشراح.
لم يعمّر العقيد ولد السالك طويلاً في السلطة، إذ سرعان ما أصبح المقدم محمد محمود ولد لولي رئيساً للبلاد بعد انقلاب عسكري جرى في 3 حزيران (يونيو) 1979. بيد أن حكم ولد لولي لم يدم طويلاً (215 يوماً)، إذ عزلته اللجنة العسكرية ذاتها في 4 كانون الثاني (يناير) 1980 واستُبدل المقدم محمد خونا ولد هيدالة به.
كانت هناك شخصية مهمة في لجنة الخلاص الوطني هي المقدم محمد ولد بوسيف الذي شغل منصب رئيس الحكومة في عهد المقدم ولد لولي، ولعب دوراً مهماً في السياسة الموريتانية وحاول معالجة الأزمات الاقتصادية والسياسية التي واجهتها البلاد، بما في ذلك إدارة الوضع المعقد الناتج من نزاع الصحراء والعلاقات مع المغرب.
كان ولد بوسيف الرجل القوي في لجنة الخلاص الوطني بعد إطاحة ولد السالك، لكنه قتل في 27 أيار (مايو) 1979 بعد إسقاط طائرته وهو في طريقه إلى دكار لأنه كان مغربي الهوى.
قبل ذلك، زار المقدم ولد بوسيف المغرب والتقى الملك الحسن الثاني، وهو ما لم يغفره له الجزائريون.
أصبح التوهان في صحراء الانقلابات ومخر عباب بحر الاضطراب وعدم الاستقرار قدر موريتانيا بامتياز. لعل ذلك كان نتاج لعنة الانقلاب على ولد داده، الأمر الذي تطلب وقتاً طويلاً حتى تبدأ البلاد التخلص من أعراضها ووطأتها.
التعليقات