محمد ناصر العطوان

استطاع شامبوليون، فك رموز الكتابة الهيروغليفية، ورولنسن، فك رموز الكتابة المسمارية، ووضعت الكتابتان في متحف واحد جنباً إلى جنب، أما العالم اليوم فيبدو أنه فقد تماماً القدرة على فك رموز التعايش بين الشعوب.

أصبحنا نعيش في زمن تكثر فيه «الهاشتاقات» المطالبة بالترحيل وكأنها الحل السحري لكل مشاكل العالم. هاشتاق هنا وهاشتاق هناك، وكلها تطالب برحيل «الآخر».

هل تتخيلون مثلاً؟ ترحيل السوريين من مصر! وفق ما يطالب به بعض «الهشتاقيين» وكأن مصر لا تحتفل بكونها أم الدنيا إلا إذا كانت خالية من السوريين، ثم نجد مطالبة بترحيل اللاجئين من إيطاليا، البلد الذي علّم العالم فنون الأوبرا والبيتزا، الآن يطالب برحيل اللاجئين، لأن اللاجئين جلبوا معهم مشكلات لا يمكن حلها بقطعة بيتزا مارغريتا، لذلك فترحيل جميع اللاجئين مطلب شعبي؟ لا، بل مطلب عالمي! الجميع يريد الترحيل وأولهم اللاجئون وكأن اللاجئين هم السبب في كل شيء بدءاً من الاحتباس الحراري وصولاً إلى نقص الطماطم في الأسواق.

أما ألمانيا فتطالب بترحيل الأتراك، الألمان الذين أبدعوا في الهندسة وصنعوا أفضل السيارات، لم يعد لديهم مواقف سيارات كافية للجميع، وتركيا بتطالب بترحيل السوريين لأن لم يعد لديهم بقلاوة كافية للجميع، وفرنسا تطالب بترحيل الجزائريين لأن الثورة الفرنسية التي نادت بالحرية والإخاء والمساواة لم تشمل حق البقاء أو الهجرة.

أما البلد الذي استعمر نصف العالم، ومازالت هناك دول تقبع تحت تاجه، يريد الآن ترحيل طالبي اللجوء، لأنه لم يعد هناك شاي يكفي الجميع، بل أصبحت بريطانيا مرجعاً عالمياً لشرعية مطالبات ترحيل اللاجئين، وسحب جناسي المتجنسين، وليس بعيداً عنها إسبانيا التي أهدت العالم رقصة الفلامنكو، تريد الآن ترحيل الأفارقة، لأن الأفارقة في رقصاتهم لا يشبهون الطيور، كذلك لم يعد هناك مساحة كافية للجميع في مكان الرقص.

كذلك ترحيل اليمنيين مطلب أمني، ولا شيء يضمن الأمن سوى ترحيل الجميع، وترحيل البورما مطلب شعبي وترحيل السودانيين أمن قومي وترحيل المغاربة مطلب اقتصادي، وترحيل الهنود من الخليج مطلب فني.

عزيزي القارئ، هذه هي المرحلة الأولى من المطالبات، أما المرحلة الثانية فهي المطالبة بترحيل بعضنا البعض، فالمطالبة بترحيل السوريين من سورية والمطالبة بترحيل اليمنيين من اليمن، والمطالبة بترحيل الليبيين من ليبيا سوف يكون مطلباً ثورياً!

العالم الذي اتصل ببعضه البعض بالإنترنت، لم يعد يحتمل اتصاله بأكثر من ذلك على الأرض.

في هذا العالم الذي أصبح فيه الترحيل هو الحل لكل مشكلة، يبدو أننا فقدنا القدرة على التعايش، أصبحنا نعيش في كوكب كبير مقسّم إلى بلدان صغيرة، وكل بلد يريد أن يبقى وحيداً، خالياً من «الآخر»... والمشكلة أنه في ظل الإجماع على مطالبات الترحيل واستجابة السياسات العالمية لهذه المطالبات، فإن المطالبة الوحيدة المستحقة لا تجد لها آذاناً صاغية، وهي مطالبة ترحيل الصهاينة من فلسطين!

ربما يجب علينا أن نتعلّم من شامبوليون ورولنسن، اللذين وضعا الكتابتين اللتين فُكت رموزهما في متحف واحد جنباً إلى جنب، فدخل الزوار المتحف بنظام، ودفعوا التذاكر باحترام وانتعشت الأسواق... وحتى ذلك الحين، يبدو أن هاشتاقات الترحيل في الدول العربية كما الدول الغربية ستبقى تملأ وسائل التواصل الاجتماعي، وكأنها الحل السحري لكل مشاكل العالم، دون الانتباه أن كل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.

moh1alatwan@