خلقت انتخابات عام 2016، التي شهدت فوز دونالد ترمب الصادم، وتمرد بيرني ساندرز الاشتراكي، موجةً مفاجئةً من الطموح الآيديولوجي. وسارع المفكرون المحافظون إلى استكمال الخطوط العريضة للشعبوية الترمبية، وبناء أطر فكرية متنوعة لعصر «ما بعد الليبرالية» الناشئ.
في الوقت نفسه، داخل صفوف التقدميين ظهر مشروعان كبيران: ثورة ثقافية باسم مكافحة العنصرية وإعلاء العدالة الاجتماعية، اكتسبت قوة طوال فترة رئاسة ترمب، وحركة إحياء، مستوحاة من أفكار ساندرز، للمخططات الديمقراطية الاجتماعية القائمة على الإنفاق الضخم.
بالنظر إلى هذه الجهود، بدا أن عشرينات القرن الحادي والعشرين على موعد مع صراع كبير بين الرؤى، بحيث يجري وضع نسخة ما من «يمين جديد» في مواجهة نمط ما من يسار ما بعد الليبرالية الجديدة.
ولكنَّ أياً ما كان ما قد يتمخض عنه موسم الانتخابات الحالي، فإنه لن يكون نقاشاً آيديولوجياً كبيراً، وإنما بدلاً عن ذلك، نعاين هروباً من الطموح الآيديولوجي على الجانبين، ففي الوقت الذي يطرح المرشح الديمقراطي مزيجاً من الخطوات التدريجية، التي جرى اختبارها في استطلاعات الرأي، وعدداً من الأفكار الفاترة، ينجز المرشح الجمهوري حملته بمجاملات غير متسقة مع بعضها البعض؛ تخفيضات ضريبية للبعض، وتقنين الماريغوانا للآخرين، والترحيل الجماعي، بجانب توفير علاج التلقيح الصناعي المجاني.
وهنا يظهر التساؤل: أين تقف الآيديولوجيات التي تشكلت بين عامي 2016 و2020 في عام 2024؟
ودعونا نبدأ هنا بحركة الصحوة العظيمة، التي اجتاحت المؤسسات الأميركية في الصيف اللاحق لمقتل جورج فلويد. يمكن وصف موقف التقدمية في العدالة الاجتماعية في الوقت الحالي بأنه مزيج من التراجع والتعزيز. إلا أن التراجع يبدو الأكثر وضوحاً على صعيد السياسة الوطنية، حيث ترغب كامالا هاريس بوضوح في أن ينسى الجميع بعض المواقف الأكثر غرابة التي اتخذتها خلال الانتخابات التمهيدية الديمقراطية قبل أربع سنوات.
إلا أن التراجع بدا واضحاً على أصعدة أخرى من الثقافة كذلك: فقد انهارت سمعة الكاتبين الناشطين إبرام إكس. كيندي وروبين ديانغيلو في أوقات عصيبة، بينما تعمد الشركات إلى تقليل الوظائف المتاحة في إطار جهود التنوع والمساواة والدمج، في الوقت الذي يحاول قادة الجامعات العودة بحذر نحو الحياد السياسي.
في الوقت نفسه، فإن الصحوة لا تتخلى عن كل المكتسبات التي فازت بها. ومع أن مجلة «إيكونوميست» نشرت تقريراً خاصاً، الأسبوع الماضي، عن أفول نجم الصحوة المفترض، فقد كشفت الاتجاهات المتضمنة في المؤشرات المختلفة استخدام الكلمات الطنانة الآيديولوجية بوسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية، مثلاً عن تحرك نحو الاستقرار أو التراجع المتواضع، وليس انحساراً بالمعنى الحقيقي. ويشير ذلك إلى أن حركة اليقظة تعايش حالة سكون، وليس تراجعاً، ولا تزال قوية رغم إقصائها من قبل الديمقراطيين البارزين.
إلا أنه لا يمكن قول الشيء نفسه عن الاشتراكية الجديدة التي بلغت ذروتها مع حملة ساندرز لعام 2020، وكذلك مع موجة الإنفاق الأولية لإدارة بايدن. ومع أن يسار بيرني ساندرز أحرز بعض الانتصارات السياسية في الفترة الأخيرة، فإنه باعتباره حركة تتطلع إلى المستقبل، فإنها تبدو دونما دفة، خصوصاً وأن طموحاتها الكبرى تعرضت للإحباط، بسبب الحكومة المنقسمة والعدو القديم لليسار: التضخم.
والتساؤل هنا: هل من الممكن أن تعود الاشتراكية الجديدة إلى الحياة في أواخر عشرينات القرن الحادي والعشرين، تحت قيادة ألكسندريا أوكاسيو كورتيز، أو في ثلاثينات القرن تحت قيادة نسخة أصغر سناً من بيرني ساندرز؟ إلا أنه بالوقت الحالي، يبدو حلم «الرعاية الطبية للجميع»، أو الدخل الأساسي الشامل، أو دولة رفاه على غرار النموذج الأوروبي، بعيداً تماماً كما كانت الحال قبل الحملة الرئاسية الأولى لساندرز.
وأخيراً، ماذا عن اليمين ما بعد الليبرالية؟ من ناحية يبدو اليمين في وضع جيد: ترمب لديه فرصة جيدة لاستعادة قوته، فهو يقدم وعوداً قومية بخصوص الهجرة والتعريفات الجمركية.
إلا أنه من ناحية أخرى، يبدو الكثير من العمل الذي حاول المثقفون القيام به للتحضير لهذه اللحظة عقيماً أو غير مستساغ أو ببساطة غير مكتمل. ودارت الوعود التي انطوى عليها اليمين الجديد، حول إضافة الكثير إلى حملة ترمب لعام 2016: أفكار كبيرة للسياسات الصناعية والأخرى المرتبطة بالأسرة، وتوجهات اجتماعية تدفع ضد التجاوزات الليبرالية، وصياغة رؤية لما بعد ريغان إزاء كيفية تحقيق الصالح العام.
الواقع أن ترمب في نسخته الثانية يتمسك بسياسة اجتماعية محافظة ومتشددة، بينما لم تتطور رؤيته تجاه تحسين ظروف العمال ذوي الياقات الزرقاء كثيراً لما هو أبعد عن بناء حواجز وفرض رسوم جمركية، ولا يزال يركز على الحكم باعتباره وسيلةً لتصفية حسابات.
في الوقت نفسه، لا يستطيع آيديولوجيو اليمين الجديد الاتفاق على ما يفعلونه؛ البعض منهم غارق في جنون العظمة، بينما البعض الآخر استسلم لخيبة الأمل.
وربما يكون الجزء الأكثر فاعلية من اليمين الجديد، الحركة الثقافية التي تبني التعليم الكلاسيكي وتنشئ جسوراً داخل جامعات الولايات الحمراء. إلا أنه مقارنة بالكوادر الثقافية التقدمية، فإن هذه لا تبدو سوى قوة حرب عصابات صغيرة.
والآن: ما النظرة العالمية التي اكتسبت زخماً في أثناء حملة 2024؟ أعتقد أن الأفكار التي كانت مؤثرة قبل أن يهز ترمب وساندرز كل شيء شكل صغير من أشكال صنع السياسات التقدمية، واقتصاد جانب العرض للجمهوريين، والليبرالية الثقافية.
* خدمة «نيويورك تايمز»
التعليقات