بعدما أعلنت إسرائيل عن سقوط قتيلين وإصابة 24 آخرين من جنودها في الجولان إثر انفجار طائرة مسيرةكانت قد أُطلقت من العراق، أصبحت مسألة النأي بالنفس التي سبق لرئيس الوزراء محمد شياع السوداني أن لوح بها باعتبارها وعداً من الميليشيات، لاغية، ليتحول العراق إلى مجال مفتوح لأي هجوم محدود محتمل من قبل إسرائيل، إلا إذا نجحت الولايات المتحدة في الضغط عليها من أجل الاكتفاء بتنفيذ عمليات اغتيال يكون عدد من زعماء الميليشيات هدفها. والولايات المتحدة لن تفعل ذلك إلا من أجل ألا تعم الفوضى مرة أخرى في العراق، فهي تعرف أنه بالرغم من استقراره الخارجي بلد قابل للانفجار ما أن تتمزق قشرة نظامه السياسي الذي لا يستند إلى دعم شعبي حقيقي بقدر ما يستمد شرعيته من حالة التوافق بين الأحزاب التي احتكرت تمثيل المكونات العراقية منذ عام 2005، وهي حالة لا تزال محل شقاق بسبب تضارب المصالح حيث وُضع الوعي الوطني المشترك على الرف وما من برنامج سياسي لترميم النسيج الاجتماعي، الذي على الرغم من تمزقه لا يزال يمثل نوعاً من التحدي لمسعى تحويل الطائفية من مجالها السياسي إلى مجال اجتماعي أكثر سعة وأشد خطراً. وهو ما يعني أن ثمة صداماً يمكن أن يقع بين النظام والمجتمع في أي لحظة تسود فيها الفوضى بغض النظر عن نجاح بعض آليات التحشيد الشيعي من خلال المسيرات الجنائزية التي كثُر عددها. معادلات المختبر الإيراني لا يبتعد الموقف الإيراني في تقييمه للمشهد السياسي العراقي عن الموقف الأميركي كثيراً، وإن كانت الميليشيات الأكثر موالاة لإيران هي الأكثر تحمساً للزج بالعراق في الحرب، وهو ما يتجلى في تصريحات قادة "حزب الله" العراقي الذي هو صنيعة "حزب الله" اللبناني. ما يُخفى على العراقيين هو واضح بالنسبة للإدارة الإيرانية التي لا ترى أن المقارنة بين التنظيمين ممكنة. فإذا كان "حزب الله" في لبنان هو درة التاج الإيراني كما يُقال مجازاً، فإن لبنان ليس كذلك. أما في الحالة العراقية فإن العراق بثرواته وموقعه الجغرافي هو تلك الدرة وليس الميليشيات بضمنها "حزب الله" العراقي والفصائل التي هي على شاكلته. يمكن أن تُضحي إيران بالميليشيات ولكنها لن تتخلى عن العراق. ولكن هل تلك المعادلة ممكنة التطبيق على أرض الواقع؟ هناك الكثير من التناقضات التي يتم الحرص على استمرارها في الواقع العراقي. فعلى سبيل المثال يمكن لإيرادات النفط أن تغطي نفقات الدولة العراقية وتزيد، غير أن مديونيته تظل عالية بالمقارنة مع دول أقل ثراء منه. تلك فقرة من فقرات التجارب المختبرية الإيرانية. فمنذ أن اعتبره الإيرانيون مختبراً لتجاربهم تعرض العراق لهزات اقتصادية عنيفة. ما هو ظاهر منها أن المسافة بين أثريائه وفقرائه تزداد سعة مع الزمن كما أن الحصول على الخدمات الأساسية كالكهرباء على سبيل المثال لم يعد ممكناً، إلا من خلال استمرار الغاز الإيراني في التدفق. ظل العراق رهين الإرادة الإيرانية على الرغم من أن جزءاً من ثروته كان قد خُصص من أجل إنقاذ الاقتصاد الإيراني من الانهيار بسبب العقوبات الأميركية. لم ينجح المختبر الإيراني في تجاربه إلا بقوة الميليشيات التي هي تحت السيطرة. ولكن سيطرة مَن؟ الميليشيات وقرار الحرب مَن يملك سلطة اتخاذ قرار الحرب في العراق ينبغي أن يكونقادراً على منع وقوعها. نظرياً يتبوأ رئيس الوزراء العراقي منصب القائد العام للقوات المسلحة. ولكن الأمر ملتبس في العراق وبالأخص في ما يتعلق بالحشد الشعبي، الذي هو عبارة عن مجموعة الميليشيات الشيعية التي كانت عاملة على الأرض قبل عام 2014 وجرى تجميعها لتشكل مؤسسة عسكرية بدت كما لو أنها قد اختُرعت بناء على فتوى أطلقها المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني بعدما احتل تنظيم "داعش" الموصل وأجزاء أخرى من الغرب العراقي. تلك ليست الحقيقة كاملة. فالفتوى التي حملت تسمية "الجهاد الكفائي" كانت مناسبة لإضفاء الشرعية على الميليشيات بسلاحها المنفلت وغير الخاضع للدولة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد تم الالتفاف على القانون بحيث كان دمج تلك الميليشيات نظرياً بالقوات المسلحة سبباً مقنعاً للتصريح علانية بما كانت تنفقه الدولة عليها لتصبح مخصصاتها في ما بعد جزءاً أساسياً في الموازنة العامة. أما على المستوى العملي فقد كانت علاقة الدولة بتلك الميليشيات تقف عند حدود التمويل وكل شيء غير ذلك إنما هو من اختصاص الحرس الثوري الإيراني، بما فيها إمكانية القيام بعمليات عسكرية داخل الأراضي العراقية وخارجها. وهو ما يعني عملياً تجريد رئيس الوزراء من صلاحيته التي نص عليها الدستور. وليس غريباً أن يتم السكوت عن ذلك الخرق الفاضح في ظل حكومة تستمد شرعية بقائها من دعم تحالف حزبي لا يمكن النظر إليه بمعزل عن صلته العميقة بالميليشيات. موقف حكومي مراوغ في أوقات سابقة حين كانت الحكومة العراقية تشعر بالحرج من استمرار الميليشيات بقصف القواعد العسكرية الأميركية، حاولت مؤسسة الحشد الشعبي التي يُفترض أنها تخضع لسلطة القائد العام للقوات المسلحة أن تخفف من ذلك الحرج فألقت مسؤولية ذلك القصف على عاتق ميليشيات لم تكن تابعة لها. وفي ذلك جزء من الحقيقة. فكتائب "سيد الشهداء" و"حزب الله" و"أنصار الله الأوفياء" و"الإمام علي" و"النجباء" لم تكن موجودة حين تم الإعلان عن قيام مؤسسة الحشد. ذلك هو الجزء، أما الحقيقة كلها فتنص على أن تلك الكتائب كانت كباقي فصائل الحشد تمول بالمال والسلاح من قبل الدولة بعدما تم إدراجها في قوائم "المقاومة الإسلامية". وبما أن تلك الحقيقة قد افتُضحت فإن الحكومة العراقية لم تُخفِ مؤخرا عجزها عن الاستجابة للضغوط الأميركية الهادفة إلى منع تلك الفصائل من إطلاق المسيرات وصواريخ كروز في اتجاه إسرائيل. فهل ينطوي ذلك التنصل على موقف حكومي عراقي مؤيد لتلك العمليات أم أنه دعوة للولايات المتحدة لكي تعالج الأمر بنفسها ووفق ما تراه مناسباً لسلامة الأراضي العراقية وأمن مواطنيه؟