يقال، وأعتقد أنه صحيح، أن أكثر كلمة متداولة في العالم، بمختلف اللغات والقارات، هي كلمة أوكي OK، ومع هذا لا أحد يعرف أصلها أو ما تعنيه، مع تعدد الروايات. كما يقال إن الكلمة الأهم في التاريخ البشري هي «الشك» Doubt التي لعبت دوراً حاسماً في تشكيل الحضارة الحديثة، لأنها كانت المحرك وراء التفكير النقدي والاستقصاء العلمي والاستكشاف الفلسفي. فبدون التساؤل مثلا لماذا تسقط الأمطار، ومن أين تنبع الأنهار، ولماذا هناك ليل ونهار، وملايين التساؤلات الأخرى، التي سعى العلماء للإجابة عنها، كانت الطريق للمعرفة. فالعلم الاستقصائي، الباحث عن الأسباب، يزدهر بالشك والتساؤل واختبار الفرضيات والتدقيق في الأدلة.

لا شك أن التقدم في مجالات مثل الطب والتكنولوجيا والفيزياء كان سيتوقف من دون روح الشك التي تتحدى القديم من الافتراضات الراسخة. فجميع الاختراقات العلمية، من قوانين نيوتن إلى نظرية النسبية لأينشتاين، أدت إلى التطورات الحديثة في علم الوراثة، وكان منشؤها التساؤل والتشكيك في النماذج السابقة. فمنذ العصور القديمة، اعتبر الفلاسفة الشك ضرورياً لمتابعة المعرفة. والشك يعني التفكير، الذي لخصه ديكارت، رائد الشك، بعبارة «أنا أفكر، إذن أنا موجود». فالشك المنهجي، يجبر الأفراد على فحص معتقداتهم، والتساؤل عن طبيعة الواقع، والتعامل مع العالم بعقل منفتح. هذا الشكل من التواضع الفكري هو السمة المميزة للفكر الحديث. ففي عصر التحميل الزائد للمعلومات، وتفشي المضللة والمزيفة منها، يعمل الشك كحائط دفاع ضد التلاعب، ويسمح بغربلة الادعاءات والروايات للعثور على ما هو موثوق.

ويلعب الشك دورا في الأنظمة الديموقراطية، من خلال ضمان المساءلة ومنع الاستبداد. كما تبني الحكومات الديموقراطية الشك في هياكلها من خلال الضوابط والتوازنات، مما يضمن عدم تحول أي فرع من فروعها أو فرد ما إلى قوة مفرطة. كما تعتمد المجتمعات الديموقراطية على المناقشة العامة والصحافة الحرة، التي تطرح فيها الشكوك الأسئلة، لتبقى تحت السيطرة من خلال تحدي الروايات الرسمية.

لقد شهدت الحضارة الحديثة، في الغرب، تحولاً نحو العلمانية، ويرجع ذلك جزئياً إلى الشك، الذي بدأ في عصر التنوير، في السلطة الدينية، مما أدى إلى ظهور الإنسانية وحقوق الفرد. ولم يكن الشك، في هذا السياق، يهدف لرفض الإيمان، بل لتعزيز حرية المعتقد والتسامح.

كما كان الشك وراء الحركات الاجتماعية والسياسية التي شكلت الحضارة الحديثة - مثل النضال من أجل الحقوق المدنية.

كما لعب الشك دورا في التنمية الاقتصادية والتكنولوجية، حيث نجح رواد الأعمال، من خلال الشك في أن الطريقة التي تتم بها الأمور. فعلى سبيل المثال، أدى الشك في أن نماذج البيع ليست مثالية، وهذا أدى لصعود عمالقة التجارة الإلكترونية مثل أمازون.

كما كان للشك دور أخلاقي، فعلى المستوى الفردي، يعزز الشك النمو الشخصي، وهذا قد يخلق حالة من عدم اليقين أو القلق، إلا أنه يحفز أيضاً على التأمل الذاتي والتحسين، كما يؤدي إلى دفع الأفراد إلى شحذ مهاراتهم، أو السعي إلى التعليم، أو إجراء تغييرات في الحياة تسهم في تنمية الشخصية.

والخلاصة أن الشك دافع قوي للنمو والتعلم والتقدم، لكنه ليس مفيداً دائماً. فقد يكون له أيضاً جوانب سلبية محتملة عندما يتم أخذه إلى أقصى الحدود. فالشك المفرط يؤدي إلى التردد وعدم اتخاذ أي إجراء. وهذا يؤدي إلى إعاقة التقدم. ويتسبب في تآكل الثقة بالأفراد والمؤسسات والعلاقات وحتى بالذات، مثل الشك في قضية المناخ أو أخذ اللقاحات والبصمة البيومترية وغيرها.


أحمد الصراف