منيف الحربي

بدا لي المشهد سريالياً بامتياز، كانت الساعة تشير إلى قبيل الفجر بتوقيت الرياض وأنسام أكتوبر تضفي على العاصمة سكينة خاصة تشي بليالي الشتاء.

‏هذا على الأرض.. أما السماء فقد ازدحمت طرقاتها بمئات الطائرات التي اختارت أجواء المملكة الآمنة (لتكون الملجأ) في ظل التجاذبات الإقليمية الساخنة.

‏225 طائرة في لحظة واحدة تطير عبر أجواء السعودية (90% منها عريضة البدن) أي ما يقارب مئة ألف مسافر يعبرون سماء الوطن في نفس اللحظة، ولك أن تتخيل أعداد البشر المعلقين فوق السحاب كل ساعة وكل يوم؛ يسترخون في مقاعدهم لا يعرفون شيئاً عن الساهرين هناك!

‏هذه «خلفية المشهد» الذي بدا سريالياً بامتياز، لكن المشهد ذاته كان من بطولة شباب وشابات سعوديين لا يتجاوز معدل أعمارهم السابعة والعشرين، يقضون الليالي الطويلة أمام الشاشات وهم بكامل تركيزهم، ذخيرتهم إيمانهم بالله ومحبتهم لوطنهم وإخلاصهم له.

‏الوطن الذي علّمهم وآمن بقدراتهم ومنحهم الثقة حتى أصبحوا نموذجاً عالمياً في الكفاءة والعطاء، كانت أصواتهم لا تنقطع وهم منهمكون في ترتيب الحركة الجوّية والمحافظة (بعد الله) على سلامة المسافرين، إنهم أبطال المراقبة الجوية السعودية الذين يديرون واحدة من أهم مناطق التحكم في العالم وأكثرها حيوية، ليسهموا في إنجازات منظومة الطيران المدني السعودي الممتدة على خارطة الوطن الرحبة.

‏يعود تاريخ المراقبة الجوية السعودية إلى 75 عاماً، الأستاذ حمزة الدباغ (رحمه الله) هو أول مراقب جوي سعودي، أُبتعث عام 1948م لدراسة المراقبة الجوّية في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي عام 1963م تخرجت أول دفعة من طلاب معهد الملاحة الجوية قبل أن يغلق المعهد عام 1980م إثر حادثة حريق الترايستار، ويتم ابتعاث 300 طالب لدراسة المراقبة الجوّية في السويد وكندا وبريطانيا، ثم أعيد افتتاح معهد الملاحة الجوية في جدة عام 1988م، وبعد ذلك جرى تحويله إلى الأكاديمية السعودية للطيران المدني عام 2007م.

‏عام 2014 تمّت سعودة مهنة المراقبة الجوّية بنسبة 100%، وفي عام 2016 تأسست شركة الملاحة الجوية السعودية (كانت إحدى إدارات هيئة الطيران المدني) لتشكّل نقلة نوعية في خدمات المراقبة الجوّية، وفي عام 2019 تخرجت الدفعة الأولى من المراقبات الجوّيات السعوديات، حيث انضمّت المرأة السعودية لأول مرة في تاريخ المراقبة بالمملكة.

‏الأحد القادم يحتفي العالم بـ«اليوم العالمي للمراقب الجوّي» والذي يوافق 20 أكتوبر من كل عام، وبمناسبة هذا اليوم نقول لكل أبطال المشاهد الحقيقية في كل اللحظات الحيّة؛ أنتم تقرأون أمجاد جيل قدم الكثير، وتكتبون فجراً جديداً وفخراً مديداً لصناعة الطيران في الوطن الغالي، كل عام وأنتم على ثغور السماء بالمزيد من السعادة والعطاء.