سليمان جودة

لا يكاد أحد يتصور أن هيمنة مواقع التواصل على حياة الناس حول العالم، يمكن أن تترك مساحة لشيء آخر في حياة إنسان هذا العصر. ولكن النبأ الذي نقلته وكالة الأنباء الفرنسية عن مسلسل إذاعي تتابعه كوبا هذه الأيام يقول، إن ما نعتقد أننا لا نتصوره هو شيء موجود وقائم بالفعل، وأن المسلسل الإذاعي الكوبي «حب بالمزاد» هو أقوى دليل على ذلك. فالمسلسل يستحوذ على اهتمام عدد كبير من الكوبيين، أما المعنى فهو أن هذا العدد الذي يتابع المسلسل في حلقاته اليومية قد استطاع أن يفلت من استبداد مواقع التواصل.

يذكر الكوبيون أنفسهم أن مسلسلاً إذاعياً كانت كوبا قد عرفته عام 1948، وأنه كان وقتها مسموعاً خارج البلاد لا داخلها فقط، وأن دولاً في أمريكا الجنوبية كانت تتابعه، وأنه كان يحمل عنوان «الحق في أن تولد»، وأن حلقاته امتدت حتى وصلت 314 حلقة، وأن الذين تابعوه كانوا يفعلون ذلك بشغف كبير على مدى ما يقرب من السنة.

وبالطبع فإن انتشار مسلسل كهذا قبل ما يقرب من ثمانية عقود كان له في وقته ما يبرره، لأن التليفزيون في ذلك الوقت لم يكن له وجود تقريباً، وإذا كان له وجود في ذلك الحين، فلا بد أنه كان وجوداً محدوداً على استحياء.

ولأن الإذاعة سابقة على التليفزيون تاريخياً فجمهورها هو الأصل، ولكنه طبعاً ليس الأكبر ولا الأوسع وبالذات في هذه الأيام.. وكيف يكون الأوسع أو الأكبر في ظل وجود غول اسمه مواقع التواصل الاجتماعي؟، فهو غول لا طاقة لأحد على مواجهته كما نرى.

غير أن جمهور المسلسل الذي يذيعه راديو بروجريسو الكوبي يقول ما عشنا نعرفه عن أن لكل قاعدة استثناء، وأن هذا الاستثناء لفت انتباه الوكالة الفرنسية إلى حد أنها رصدته، ثم راحت تنقله إلينا لعلنا نعرف أن في أنحاء الكوكب جمهوراً استطاع أن ينجو من قبضة المواقع إياها، وأنه سعيد بهذه النجاة للغاية.

والحديث عن سعادة جمهور الإذاعة في زمن الإنترنت ليس من عند الوكالة الفرنسية، ولكنه من عند أفراد في هذا الجمهور سألتهم الوكالة عن شعورهم فأجابوا، ثم نقلت هي ما قالوه إلى متابعيها في تقرير موسع، فبدا أننا نسينا أن العالم لا يزال يعرف شيئاً اسمه الراديو، وأن هذا الرديو إذا كان قد توارى قليلاً أو كثيراً في زمن النت وما يتفرع عنه، إلا أن جمهوره الذي يسمعه ويتابعه لا يزال يجد متعة في سماعه وفي متابعته على السواء.

وليس سراً أن الراديو أكثر متعة في متابعته مما لو كنت أنت تتابع التليفزيون مثلاً، لا لشيء، إلا لأن متابعة الإذاعة تختلط ببعض من الخيال، ولأن هذا الخيال يضيف إلى متعة السماع نفسها متعة أخرى هي متعة التصور.

والقصد بالتصور أن شخصاً إذا جلس يتابع الشاشة الصغيرة على سبيل المثال، فإن الصورة على الشاشة تأخذه بكل حواسه ومشاعره تقريباً، فلا تترك له مجالاً يمكن أن يسرح بخياله فيه، ولذلك يبقى مثل هذا المشاهد أسيراً للصورة أمامه.

أما موجات الإذاعة فشيء مختلف تماماً، لأنها لا تأخذ من المستمع غير أذنيه، وما سواهما تتركه يعمل ويتخيل ويتصور كما يحب ويشاء، فكأنه طائر يطير بين الأشجار ويتنقل بين فروعها وأغصانها حراً بجناحيه.

ولا بد أن أساتذة وخبراء الإعلام مدعوون على المستوى الأكاديمي إلى أن يشرحوا لنا بعضاً من المعاني التي تحملها هذه المفارقة الكوبية.. وهي مفارقة بالفعل لأن الإنترنت ينتشر فلا يستثني مساحة في الأجواء، ولأنه في انتشاره ذهب إلى حد التأثير الذي تلحظه العين المجردة على الجريدة المكتوبة ثم على الشاشة المصورة.

أعرف بالتأكيد أني أتكلم عن جمهور إذاعي محدود بمقاييس جماهير هذا العصر، وأعرف أن هذا الجمهور موجود في دولة نائية، وأن هذه الدولة النائية قائمة على خريطة أمريكا الجنوبية في موقعها في أقصى الأرض، ولكن هذا كله يجب ألا يمنعنا من التوقف أمام نبأ الوكالة الفرنسية، لأن ما أذاعته شيء فريد، ولأن هذا الشيء الفريد يستحق منا أن نتأمله، وأن نرسل له في الوقت نفسه تحية.